لماذا وإلى أين ؟

“طنــــجة و المــــاضي”

  • محـمد العــطلاتي

لا يزال الناس، ممن بلغوا من الكبر عُتيا في مدينة البوغــاز، يستحضرون أحوال هذه الحاضرة الدولية، و كيف كانت تُدار شؤون العالمين بها، و كيف كان الرخاء يضرب أطنابه في أسواقها و يعم الهناء بأحيائها، أما الآن، كما يحكي مُعاصرٌ لسنوات طنجة الدولية، فقد انقلب العالي نحو الأسفل، واختلط المُقيم بِالمارّ و القاطِنُ بِالعابر.

في عصر طنجة الذهبي، كانت الأمور تجري بهذه الحاضرة العالية بشكل لا يدع الصدفة تقول كلمتها، فالنظامُ كان سيد الميدان، وهو حاضرٌ على الدوام في تدبير مَعاش الناس، و فِعْلُهُ قائم في حماية الحقوق و أصحابها، و بلغ “طُغْيانُ النظام” درجةً صارت معها الفوضى ذاتها أقربَ إلى صفة النظام منها إلى نَعْتِ الفوضى.

الآن، بعد الاستقلال، و بعد تعاقب العشرات على تدبير شؤون المدينة، من أصناف مختلفة و مذاهبَ مُنَوَّعَة و ألوانٍ مزركشة، فقد تحولت المدينة إلى عاصمة بِطِباع موغلةٍ في صنفٍ من البداوة “المُعَصْرَنَة”، لقد أحيطت، ببساطة، بأحزمة من الأحياء العشوائية، أغلب مواطنيها مُهَجَّرون أو مُهاجِرون وافدون من القرى الجبلية و المدن النائية، و ربِـــح، من سياسة “توطين” الناس في هذه “المستنقعات العمرانية”، رؤساء مجالس سابقون و أعوانٌ محليون، لهم تابعون و أتباع، جنوا الألوف المؤلفة في جنح الظلام، لتجد خزينةُ أموال الدولة، و أموالُ الجماعة جزءٌ منها، نفسَها مُجبرةً على تسخير أموال دافعي الضرائب لإزالــة و تجفيف هذه المستنقعات، و إعادة توطين قاطنيها في أماكن أخرى، و للعاقل أن يتصور حجم الإنفاق المالي و ما يرافقه من أتعاب، ومن أساليب الغش و التلاعب، في حالات كثيرة.

أما عن أحوال المدينة، فقد صارت شكلا “متقدما” من أشكال فقدان الهوية و انتفاء النظام، فالحاضرة، التي كانت موطنا لرجال الأدب و الثقافة، و الفنون و السياسة، صارت ملْجأً لكل شارد و معتوه، بفعل انتشار سياسة اللانظام و اللانضباط، فشوارع المدينة وأزقتُها أضْحَتْ سوقاً مفتوحاً أمام كل هائمٍ لِيَعْرِضَ “بضائِعَه”، و أضحى الناس يُمْسون على تجارة لِيُصْبِحوا على أخرى، فالكل تجار و الجميع باعة، و البضاعةُ مسلولةٌ من المزابل الوسخة، و مُنْتخَبَةٌ من حوض النفايات المتراكمة.

أما عادة التسول و استجداء الجالسين و المارة، فقد صارت حرفةً محترمة، متاحٌ توليها للعامة من الجمهور، لا فرق بين صبي و بالغ و لا فرق بين حسناء أو عجوز شمطاء، و لا بين سيدة دهماء و أخرى سوداء، فحيثما وليت وجهك لاقَتْك جحافلُ المتسولين و جماعات المُسْتَجْدين، منهم من يستر نفسه بأنيق الهندام، و منهم من يَتَسَتَّر بأوسخ الأسمال، كأنه عامل من عمال المناجم قد أنهكه العمل المجهد، لكن الواحد منهم، في حقيقة الأمر، مهندس ملابس بارع يحسن اختيار الملابس الملائمة لتمثيل دور المغبون الذي اشتدت عليه المحن و المصائب !.

لقد تبدلت أحوال المدينة الأصيلة و انْقَضَّتْ عليها أيادي السفلة و المرتزقة، فصارت مدينة “منورة” بمصابيح فاسدة، مصابيح لا تسر الناظرين، و لا تنفع في محاصرة ثقافة موغلة في أمراض التخلف الاجتماعي، تلك الأمراض و العلل التي صارت تخنق أنفاس المدينة، فـــهل لطنجة ارتباط بماضيها الدولي العريق؟

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
ابو زيد
المعلق(ة)
7 مايو 2023 01:52

مقال جراح شرح جثة طنجة و أبرز سبب موتها السريري بوصف يوحي بانتماء اخلاقي و أدبي للمدينة لا عنصري و اماط اللثام عن تدبير عقود من الفوضى خلقت فوضى و غنى لانتهازيين يتغنون بانا طنجاوي لعلهم يقتنعون بانتماء مستحيل لان هذه المدينة تسع الكل و يصيب من لم يحسن الى اهلها لعنة …………!!!

ابن بطوطة
المعلق(ة)
7 مايو 2023 00:55

يااستاذ التمدن والحضارة له سلبيات ولكن له ايجابيات. فلماذا لا تقول ن طنجةتتوفر على ثانب ميناء في المتوسط واكبر مصنع للسيارات و ان المدينة توسعت وكبرت واصبحت ثاني مدينة اقتصادية في المغرب بعدما كانت لا تصنيف فبل. نعم نريد لطنجة ان تنتج لنا ابن بطوطة وشكري وو. لكن هذا المجتمع طنجاوي عليه ان يكافح غي جميع المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية وو. وطنجة دائما عالية

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x