لماذا وإلى أين ؟

خـــطرُ المـُـــؤثرين..

آشكاين/وسيم الفائق

أحدث تواترُ الثورات التقنية و العلمية، وما رافقها من تعميم لوسائل التواصل الحديثة، تغييرا جذريا لصورة عالمنا، لِتُحول بذلك إنسان العالم المعاصر إلى كائن مفتون بـ”الصورة” و”الشاشات”، و هو سياق شكل أرضا خصبة لبروز فئة في المجتمع، يصفون أنفسهم بـ”المؤثرين الاجتماعيين”، نجحت في استقطاب قاعدة جماهيرية كبيرة، مهووسة بتتبع أدق تفاصيلها.

إن ما يجعل استمرار الحديث عن ظاهرة “المؤثرين” مشروعا، هو أننا إزاء ظاهرة تتطور بشكل كبير، لتلامس العديد من مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و غيرها، خاصة أنها تضعنا أمام تحديات حقيقية حول مسألة “التربية” ودور المدرسة كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية، في خضم هذه “الزوبعة الحديثة” التي أصبحت لها القدرة على التوجيه و التأثير. لكن، من هو “المؤثر” وما طبيعة تأثيره؟ وهل من الضروري أن أكون “تافها” كي أكون مؤثرا ناجحا؟.

الموجه وسياق الظهور

ابتداء من القرن 20، ستشهد الإنسانية “صخبا كونيا”، بسبب التحولات العميقة التي فرضتها الثورات التاريخية الكبرى، والتي كان لها تأثير مباشر في قلب علاقة الفرد بمحيطه الإجتماعي، خصوصا مع سياق نظام “العولمة”، الذي اشترط أسلوبا جديدا للعيش، يتأسس على آلية اقتصادية أنتجت بدورها نمط استهلاك مفرط و بشكل “مفردن”.

ومع تطور وسائل الإعلام الحديثة، لتساير حالة “الصخب” هاته، التي يعد الهاتف الذكي Smartphone بطلها الرئيسي، كان لا بد من ولادة “المؤثر” أو “influencer”  و”اليوتيوبر” و”التيكتوكر”…إلخ، استغلت فئة عريضة منهم، ذهنية “الكائن المستهلك” لتسويق المنتوجات و سلع الشركات الكبرى، و أيضا -وهو ما أثار جدلا كبيرا- ترويجهم بشكل واسع و مبالغ فيه لما اصطلح عليه بـ”التفاهة”.

سلطة “الإنفلونسر”

لولا قدرتهم على التوجيه و التأثير في مسار الرأي العام، لما طُرِح النقاش حولهم، غير أن هذا الحضور القوي لـ”المؤثــر” جعله مثار سجال واسع، خصوصا بعد أن اقتحموا (المؤثرون) مجالات حيوية، مثل إشراكهم في أغراض سياسية، عبر توظيفهم في حملات انتخابية، بل إن بعض السياسين تحولوا بدورهم إلى “بروفايلات” مؤثرين، موجهين خطاباتهم إلى الناس بعبارات أشبه بتلك التي تستعملها هذه الفئة، من أجل صناعة “أتباع” عبر استمالة العواطف وكل ما هو وجداني، بعيدا عن كل إقناع عقلي.

خلال لقاء افتراضي، تحدث الباحث في علم الإجتماع، محمد ياقين، في مداخلة بعنوان “المؤثرون: آليات الفعل ومستويات التوظيف”، مشيرا إلى أن “المؤثر”، كيفما كانت خلفيته و غايته، و سواء كان مؤثـرا “إيجابيا” أم “سلبيا”، فإنه يحاول أن يصنع “جماعوية”، وتأثيره يكون فعالا باستهداف ما هو وجداني، مؤكدا أن الفئة الأكثر تأثرا هي فئة الشباب أو ما يطلق عليهم “جيل z” (مواليد ما بعد 1995).

لهذا يرى ياقين، أنه ليس كل “مؤثر” قادرا على توجيه الرأي العام، قد يقتصر الأمر على مجرد شخص هاوٍ، وقد يتحول لمؤسسة بكاملها، أو مجرد وسيط لترويج المنتوجات، وقد يبقى مؤثرا في فئة معينة؛ كما هو شأن بعض المشتغلين في الحقل الديني أو السياسي. كما أن هناك نوعا من “المؤثرين” أصبحوا مثار نقاش متزايد، و مدعاة “استفزاز” أحيانا، هم أولئك الذين يستثمرون في كل ما هو “مثيـــر” بالمعنى المستفز، كلما ازدادت أعدادهم و محاولات “الإثارة” ازداد معها منسوب التفاهة، الذي يمس المشاعر، وهو ما يخلق حسب الباحث، تحديات حول “الذوق السليم” و التفكير النقدي.

إن هؤلاء المؤثرين، حسب ياقين، الذين يلعبون على أوتار استمالة الجمهور و كسب ثقتهم، بخطاب مزود ببهارات السخرية أو بمفردات عنيفة أو قاموس أخلاقي، يظلون دائما مهددين باستعمالات أداتية والتحول من فاعلين إلى أدوات للتأثير.

أما فيما يخص لجوء السياسيين للمؤثرين، يضيف الباحث، فإنما يفرغ السياسة من قيمتها، رغم تحقيق أثر ظرفي، وقد يؤثر سلبا في مسار صناعة مفهوم المواطن، ويبقى الضحية الأكبر أمام هذا الوضع، في إطار تنافس المؤثرين هو “الجمهور” لأن المنتوج الذي يقدم له هدفُه الأساسي هو ضمان بقاء وتزايد “المتابعين”.

المؤثر وسؤال الأثر

غالبا ما يثار النقاش حول مسألة إنتاج التفاهة، بل صرنا نشهد تعبيرات جديدة لهذه الظاهرة باستمرار، تَسلل منطق اشتغالها إلى بعض “المؤثرين” في المجال الديني و السياسي، غير أن الإشكال هو الإقبال المتزايد على ما يوصف بـ”التفاهة” -ولو أن ما قد يبدو تافها للبعض قد يظهر “قيما و بالغ الأهمية” لدى آخرين- و اللهث وراء كل ما هو “مهيج” للفضول، والأخطر من كل هذا، وفق الباحث ياقين، أن هذه الفئة تسوق لنا نماذج معينة للنجاح؛ فالعديد منا اليوم أصبحوا يرون في المؤثر قدوة و عنوانا للنجاح والشهرة وكسب المال الوفير في وقت قصير.

إن التحدي الأكبر الذي يواجهنا أمام بروز هذه المحتويات الرقمية الحديثة، هو منافسة هذه الفئات، في مختلف منصات التواصل الإجتماعي، لمؤسسات التربية، مع ترسيخ ثقافة “الأيقونة و الصورة”، والتسويق لصور ونماذج عيش ببعد واحد، بتعبير المفكر هربرت ماركيوز.

والتهديد الذي يعصف بنا مع توغل أشكال التأثير الجديدة، هو تغييب الاختلاف، وتحويل الأفراد لمجرد “متابعين” و “أرقام” و “مستهلكين”،  دون أي ملكات نقدية، في اتجاه ترسيخ ثقافة “تشييء الإنسان”، وتغليب الصورة على الثقافة و إضعاف منسوب الوعي وإماتة الكتاب وثقافة القراءة لدى الجيل الناشئ، جيل غير قادر على الاختيار أو النقد، مع تسويق أشكال النجاح السريع وربطها بما هو “رقمي أداتي”. وليس الإنسان “ذو البعد الواحد”، الذي تحدث عنه ماركيوز، إلا أحد مظاهر هذه التحولات التقنية، التي صرنا نعيشها، ويبقى الجمهور المستهلك ضحية هذا الوضع الذي أصبح –منذ اختراع التلفاز إلى الآن- من يملك  أكبر عدد من “اللايكات” يملك –بشكل من الأشكال- السلطة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x