انتشرت بشكل لافت بكبريات مدن المغرب ظاهرة احتلال الملك العمومي من طرف الباعة العشوائيين، و أصبحت أزقة و شوارع المدينة مقرات فعلية و قارة لمحترفي الاتجار في مختلف البضائع و المؤن، مع ما يرافق ذلك من ازدحام شديد نتيجة تكدس المشترين و المتجولين و طَواف عربات النقل ثلاثية العجلات و استقرارها بصورة دائمة إلى جانب هاته البضائع على نواصي الشوارع.
ففي طنجة، على سبيل التمثيل، تعتبر أحياءٌ بعينها نماذجَ صارخة على مدى التسيب الذي بلغته حالة الضبط و التنظيم بسبب استفحال ظاهرة التجارة العشوائية، فقد”طــوَّر” الباعة الجائلون بمدينة البوغازطرقا متعددة للاستيلاء على الملك العام،بحيث أصبحت أماكنُعامة و أزقة، تدخل ضمن المجال العمومي بالمدينة،مجالا يتحكم فيه هؤلاء الأفراد عن طريق “الحجز” المباشر أو “وضع اليد”على مساحات تشمل الأرصفة و المعابر الطرقية، على ضيقها، ما ينتج خنقا فضيعالحركة مرور العربات و تعطيلا للسير في طرق تعتبر في أصلهاضيقة لا تحتمل المزيد من الازدحام.
يحدث ذلك أمام تجاهل تام يطبع سلوك السلطة العمومية المعنية، إذ اعتاد الباعة وضع سلعهم دون أدنى تدخل من طرف الجهات الوصية على تأمين حرية حركة المرور و التنقل و الجولان، وضبط المخالفين و زجر المتطاولين.
و بسبب استفحال المنافسة غير الشرعية التي يشكلها هؤلاء الباعة في مواجهة أرباب المحلات التجارية، يقوم هؤلاء بدورهمبعدد من أحياء المدينة بإخراج سلعهم و بضائعهملعرضها على كامل الأرصفة،بل و على الطرقات الواقعة فيها محلاتهم التجارية، و هي سلوكات و تصرفات مجانبة للمنطق و للقانون و للصواب، لأنها تكون في كل الحالات، فضلا عن انتهاكها للقانون، مصدرا لاندلاع الصراعات و النزاعات الغوغائية حول من له “حق” استغلال مجال، يعتبر، من وجهة نظر القانون، ملكا عموميا، و دون سلوك أي مسطرة من مساطر القانون المعتمدة.
و رغم قيام السلطات البلدية و الولائية بتشييد عدد من أسواق القرب بهدف استيعاب الأعداد المتزايدة من التجار الجوالين و ضمان الحد الأدنى من الانسيابية في الشوارع و الأزقة، إلا أن هاته السلطات لم تنجح في تخفيف ثقل الازدحام و انتشار مظاهر الفوضى و سوء التنظيم، الذي لا يفترض قبوله في مدينة تسعى للقطع مع مظاهر الفوضى المسيئة لسمعتها و صيتها الدولي.
فضلا عن ذلك،فإن قسما كبيرا من الباعة و الأفاقين قد أصبح مختصا في إعداد “وجبات غذائية” على متن عربات ثلاثية العجلات، حيث يصطف هؤلاء في شريط متواصل مستعملين الفحم لإعداد هاته الوجبات المتكونة من لحوم يُجهل مصدرها و نوعها و لا يعرف شيء عن مدى سلامتها الصحية، و لا تخضع لأي رقابة قبلية أو بعدية، ما يشكل خطرا فعليا على صحة المستهلكين الذين يتكون أغلبهم من مواطنين عديمي الحيلة، لاسيما في ظل سيادة العشوائية بهذه الأنظمة الغذائية و غياب المؤسسة المعنية بالسلامة الصحية للموادالمعدة للاستهلاك الآدمي.
و بالطبع، فأعداد غفيرة ممن يطلق عليهم، بقدر كبير من التجاوز، اسم الباعة، لا يمكن اعتبارهم تجارا، بالتعريف الذي يحدده القانون التجاري، وذلك من جهة النظر إلى نوع البضائع التي يعرضونها للبيع، فهي في الغالب الأعم مجرد” أشياء”يضعها أصحابها أمامهم على قارعة الطريق بغاية حجز المكان الموضوعة فيه، لا بهدف الاتجار فيها، فالقيمة السوقية لهذه “البضائع” المعروضة لا تتجاوز دراهم معدودة، فهي في مجملها عبارة عن معدات لا تصلح لشيء أو هي ملابس تخلص منها أصحابها برميها في مكبات النفايات، و غير ذلك من “الأشياء” التي يعجز العقل عن تصنيفها في دائــرة الحاجيات البشرية !
هنا قد يتساءل المرء، بالجدية المطلوبة و بالانتباه الضروري، عن ماهية و ســـر هذا الطغيان الماحق للفوضى و العشوائية؟ و هل هي حقيقةً فعل من تدبيــــر مُـدبِّــــر؟ أم أنها مجرد سلوك طبيعي و معتاد تفرضه إحدى أوجـــه الضرورة التي يفرضها التدبير؟و من يكون هؤلاء المستفيدون من غلق الطرقات العامة و الأرصفة، و حتى الممرات، في وجه عابــري السبيل؟ وهل الأمر يتعلق فعلا بباعـــة جوالين و جائلين؟ أم أن هؤلاء، في واقع الأمر، باعـــة مستقرون تمام الاستقرار، و أنهم استطابوا الإقامة المجانية في ربوع هذا “الريع المكاني” دون دفع رسم من الرسوم؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها