لماذا وإلى أين ؟

الشِّعر وأزهار الشرّ

الشاعر نبيل منصر

“نكدٌ بابُه الشرّ”… مقولةٌ للأصمعي عن الشِّعر لها تجاوبات كونية في كلّ الجغرافيات الشعرية، قديمها وحديثها. الشرّ بوصفه منظومة ذاتية من القيم المضادّة، التي لا تُزعج فحسب راحة البنيات القائمة، بل تبني أفقاً مختلفاً للحقيقة والوجود الإنساني. كشوفات المعرفة الإنسانية الحديثة أزاحت الغطاء عن حجم الظلمة اللاواعية، وما يرتع بداخلها من مخلوقات ومسوخ قديمة من الوجود الإنساني، الذي سبق للأساطير والملاحم والأشعار القديمة أن أضاءت بعض وجوهه.

لم يكن متاحاً، زمن البدايات، تصوُّر الشعر بوصفه ابتهالاً سامياً يجنح بالإنسان نحو التطهير فحسب، من دون الانتباه لوسوسة هذه المسوخ، التي تُطلّ برؤوسها من عمق هاويتها السحيقة. إنّ المكان الطبيعي والأسطوري بأوديتهما المُظلمة وأقنعتهما العجيبة وتمائمهما السحرية، شكّل الفضاء الأثير، الذي ترعرعت فيه هذه المسوخ، قبل أن تُطالب بحقّها في اللغة الشعرية.

إقامة هذه المسوخ في أرض الشعر لها تاريخ بعيد، بالمعنى الذي يجعل الشرّ متأصّلاً في كلام الشعراء (وهو ليس مُتعارضاً بالضرورة مع الخير). إنّ الصدور عن حدود المتخيَّل المقبول بقيمه المسنّنة، لا يمكن أن يؤدّي سوى إلى تراخٍ في القول الشعري، ينزع عنه طاقته العصابية، التي هي أساس كل خلق وإبداع. ولا تستيقظ الحياة الشعرية بغير هذه الوسوسة، التي تُنادي على كل أشباحها البعيدة، لترفد قول الشعراء بما يعتمل في صحرائهم وأوديتهم الداخلية من نداءات وهواجس. إنّ طاقة الحياة، ببذرتها الديونيزوسية الخلّاقة، هي ما يضاعف من جدوى هذه الوسوسة، التي تهجس، عند كلّ شاعر، برغبة معذَّبة في اختراق الحدود والنهوض بمستحيل الذات. ويمكن أن نتصوّر أنّ “طائر فينيق” ينهض من بين ضلوع كلّ شاعر وسَمته دورة الحياة وذروتها بأثرها المحوّل، فهبّ، من رماده، لاستقبال أنسامها ونداءاتها البعيدة.

بقلب الفردوس تزحف الأفعى بلسانها المشقوق، ساعيةً نحو محتمل آخر للحياة. إنّه نداء الحياة الدنيوية، حيث يمتزج نشيد الأرض بتلك الخشخشة البعيدة، وأثرها الموقًّع على التراب وأغصان الشجر. أدركَ الإنسان إقامته الجديدة بفعل تلك الوسوسة، التي انساب نشيدُها الفاتن بأعماق كيانه، فزلزل تحت أقدامه حدودَه القديمة، وشرّعت أبواب مخاطرة كبرى. الشعر العظيم هو ابن هذه المخاطرة، حيث تتبلبل الألسن وتلتبّس الآفاق والحدود. الهبوط إلى الأرض هو بحث عن آدم آخر، يلهج بهبات الفن وقدرته على بثّ محتملات أُخرى للعيش الأعمق. على حدود الخطر، وفي مواجهة الموت، وآفات الزمن الأرضي، يرفع الشاعر كلمته المحوّلة، متواطئاً مع كائناته الأسطورية والسحرية، واجداً في عناصر الطبيعة الأكثر إيغالاً في القدم، قوّة رمزية ووجودية تسنده في بلورة جسم جديد لحياته وكلامه الشعري.

هبوط الشعراء تجسيدٌ لآدم شعري، عَثر في الأرض على مستقرّ لأهواء راعَه طعمُها ومذاقها. لسان الأفعى بثّ روحاً أُخرى في لسان الإنسان، فكان (اللسان) مدخله ليقظة حفلة الحواس بجسده المشدود إلى الأرض. حتى النجوم التي تُضيء ليله الوثني يُحدّق فيها الشاعر منصتاً لنشيد الرغبة والجرح الدافق بأعماق كيانه البعيد. ولم يكتف الشاعر بالسعي في الأرض بحواسه المثقّفة، بل انبرى يحفر، بدأب وحمية، عوالم سفلية تَسَع جلجلة وجدانه واختلاجات جسده، الذي وقرت بأعماقه كلمة الشعر متعدّدة الأصداء. نكد الشعراء تطويع للعيش وفق طاقاته الغامضة المتجدّدة، المتعارضة أساسا مع ما تمّ ترسيمه من سنن وحدود، تقيّد الفرد وترسم ممرّات آمنة للتسامي. وسوسة الأفعى تواصل بداخل الشعراء نشيدها الأرضي، الذي يتشقّق له لسان الكلام، فيُفصح عن ممكنات غير محدودة، لا متوقَّعة، للكلام الشعري ولأفق العيش الذي يستشرفه ويَعد به.

يلين الشعر كلّما تربّصت به العقائد. يفقد الجدوى ويصبح مجرّد جنديّ في الخدمة. تتبخّر الشياطين وتنزف الحيّة على أعتاب الشعراء. الأراضي الممهَّدة والطرق السالكة المضاءة لا تفضي سوى إلى خرس الشعر. ما من عصاب يبثّ سمه المحول بقلب اللغة، ما دام الفعل التبشيري يشلّ يد الشعراء، ويجعلها لا تكتب سوى ما يؤمن به الناس وزعماؤهم. الشعر لغة بكورية لا تتلو أي خطاب آخر، مهما كانت وعوده الفردوسية. هذا وحده ما يجعل منه فجراً دائماً لمعرفة ذاتية عميقة، منبثقة من غبطة الحواس وفتنة السعي، وخوض تجربة العالم، على نحو بكوري لا يقيّده حدّ ولا تخم. ضمن هذا الأفق، يبني الشعر معرفة مقتحمة، بدئية، (لا تُستبدل بغيرها ولا تُسخَّر إليها)، قلقة ومتسائلة، في حوار تحويلي، تملُّكي مع تجارب الحياة وشذاها الرمزي، الذي يبدو بلا عمر.

شعراء كثيرون أدركوا قيمة “النكد” الشعرية. الحداثة الشعرية الغربية سمّت هذه النبتة العربية القديمة لعنةً وشرّاً. إنه موقف شعري ووجودي يقف بالشعر خارج كلّ خلاص. تراث العقل والسكينة، وأخلاق الخنوع والرضا، يستبدله الشعراء بمقارعة حيّة للأهوال بقلب المدينة، حيث يقظة الأشباح وانعكاسها الليلي على الأفعال والأهواء. بقلب هذا الفضاء عاش الشعراء اختلالاً خلّاقاً للحواس، في احتضان حميم لوحوشهم القديمة، مستقطرين لحظات حياتهم فنّاً خالصاً من القول الشعري الرؤيوي البعيد.

بهذا الفضاء، تفتّقت أزهار بودلير عن شذى ليلي غريب، عرفت “الأفعى” الخالدة كيف تشقّ هواءه، لتنفث في طيّاته اللامرئية سمّها الخلاق. ثم عاد بودلير في مقدّمة كتابه الشعري “سويداء باريس” لينعت قصائده النثرية بالثعبان الذي لا يمكن أن نميّز بين ذيله ورأسه. إنّه وسْم اللعنة والنكد، الذي يجعل “الشرّ” مجدِّداً لجسم الكلام الشعري ولروحه اللاذعة. معه، انبثق جمال مُرّ ومرعب يصعب تدليله أو الاقتراب منه بغير استعداد أو حذر.

* شاعر وناقد مغربي

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x