لماذا وإلى أين ؟

في الحاجة إلى إطلاق مسلسل المصالحة مع مغرب الجبال

دة. خديجة الكور*

يتميز المغرب بتنوع مجاله الطبيعي مما مكنه من الاضطلاع بأدوار طلائعية عبر التاريخ. وتعتبر الجبال الخاصية المهيمنة على الشخصية الجغرافية لبلادنا تفرض نفسها من حيث الحجم والامتداد المجالي.

وتشكل الجبال المغربية، التي تحتل أزيد من 26% من المساحة العامة للبلاد (188 كلم2) ويقطن بها ما يزيد عن 7 ملايين نسمة وتحتضن أكثر من 62% من المساحة الغابوية، مصدرا للثروات الوطنية وخزانا إيكيولوجيا يأوي الأساس من الأصناف النباتية والوحيش والمواقع الطبيعية.

كما تكتسي الجبال أهمية كبرى على المستوى الاجتماعي حيث شكلت على الدوام مصدرا للتحديد الديموغرافي ومعقلا للديناميات البشرية، وتحتل مكانة خاصة على المستوى التاريخي والاجتماعي، كمنطلق للانبعاث السياسي والإصلاحات الاجتماعية والدينية، وكمعقل للمقاومة الوطنية ضد الاستعمار، ومصدرا لإمداد الحلفاء الأوروبيين إبان الحربين العالميتين بالوحدات العسكرية التي مازالت إنجازاتها حاضرة في الأذهان. كما لعب أبناء وبنات المناطق الجبلية دورا كبيرا في الدفاع عن وحدة المغرب وسيادته ضمن صفوف القوات العسكرية الملكية.

كما تعتبر الجبال على المستوى الثقافي محمية المغرب الثقافية، حيث استطاعت الحفاظ إلى اليوم على ذاكرة غنية للهوية الثقافية لبلادنا، وعلى الموروث الثقافي الذي يختزل إمكانات معرفية ومهارات محلية عالية وأصيلة وإبداعات مختلفة ومتميزة ومتكيفة مع صعوبات الوسط الطبيعي، وهي تشكل بذلك موطنا لثقافات محلية غنية تعزز مكانة رصيدنا الثقافي.

ورغم هذا التاريخ المتميز للجبال والأدوار التي اضطلعت بها على مر العصور، ظلت مرتبطة في التمثلات بكونها مجالات “المعارضة” والركود التنموي وظل سؤال الجبال المغربية مقرونا بمقاربة تنمية العالم القروي ببعد إجرائي قطاعي متجزئ وظل التراث الجبلي رهينا ومرتبطا بالتنمية الاقتصادية القطاعية التي تربطه أساسا بدعم السياحة الجبلية ولم يحظى موضوع الجبال بما يلزم من الأهمية لا في تقرير الخمسينية ولا في وثيقة النموذج التنموي الجديد.

ورغم الجهود المبذولة في إطار عدة سياسات قطاعية وصناديق لدعم العالم القروي إلا أنه لم تنل الجبال حظها من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وراكمت على مر السنين تأخرا صارخا في مجال البنيات والخدمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ونحن نعيش اليوم على إيقاع أفق جديد للتنمية يتأسس على مبادئ الإنصاف والعدالة الاجتماعية والمجالية أصبح من الضروري إعادة طرح سؤال الجبال المغربية ضمن النموذج التنموي الجديد بمقاربات جديدة تستحضر العمق التاريخي والثقافي للجبال، وخصائصها الطبيعية والبشرية والثقافية واللغوية وتتأسس على استدراك التأخر التنموي بمقاربة مجالية تقطع مع منطق الريع والاستغلال لخيرات الجبال ومنطق الدعم والإحسان وحكامة ترابية تضمن اندماج والتقائية البرامج والمشاريع والتدخلات بين مختلف الفاعلين المعنيين بتدبير المجال وتنبني على العودة إلى الجبال من مدخل الموارد الترابية والتراث والاستثمار الأمثل والناجع لمواردها بما يضمن تحصين التراث الطبيعي والثقافي والمحافظة على البنية الجبلية وتهيئة مجالات المشاريع للرفع من القدرة التنافسية للجبال وخلق أقطاب اقتصاد التراث.

ولابد أن تنطلق المقاربات الجديدة من خلق الديناميات الضرورية لضمان التملك الجماعي لتاريخ الجبال وعمقها الثقافي والإبداعي بما يعزز الفخر بالانتماء لهاته المناطق، وإنتاج المعرفة المتعلقة بالجبال والنخب القادرة على حكامة المجال الجبلي وأن تتأسس على جرد الممتلكات الرمزية والثقافية لمغرب الجبال وتثمينها واستثمارها لأغراض التنمية وعلى تصنيف الموروثات الثقافية الجبلية ضمن قائمة التراث الوطني والدولي، واستثمار العمق التاريخي والثقافي للجبال كمنطلق لتسويق صورة المغرب التي كثيرا ما ارتبطت عدة إنجازات وطنية في مجال الرياضة والفن والثقافة باسمها تحت مسمى “أسود الأطلس”.

كما تقتضي هاته المقاربة الإفراج على قانون الجبل الذي يوجد على رفوف مؤسسة البرلمان منذ ما يزيد عن 20 سنة حيث سبق لفريق الحركي بمجلس النواب أن تقدم سنة 1997 بمقترح قانون الجبل الذي تم تنقيحه على ضوء مستجدات زلزال الحوز وتقديمه من جديد سنة 2023 إلى جانب تقديم مقترح قانون يهم إحداث وكالة وطنية لتنمية الجبال بما يضمن تحديد المرتكزات والموجهات العامة لسياسة عمومية وطنية تضمن حماية وتنمية المناطق الجبلية وتتأسس على مقاربة حقوقية تنتصر لقيم الإنصاف والعدالة الاجتماعية والمجالية التي كرسها دستور 2011.

لقد لعب الجبل دورا رياديا في تاريخ المغرب وصنع الأحداث الكبرى وطنيا، لكن بقي على الهامش وعانى من التهميش إبان فترة الحماية ولحظة الاستقلال، وظل يعاني إلى اليوم من غياب رؤية شاملة ومندمجة لتصحيح هذا الواقع مما جعل منه مجالا لإنتاج مختلف أشكال الهشاشة وضعف الخدمات والاستثمار وتدني مؤشرات التنمية.

وقد آن الأوان لتفعيل واحدة من أهم توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ذات الصلة بجبر الضرر الفردي والجماعي وحفظ الذاكرة وتنمية مناطق الجبل بغية رد الاعتبار لمجال ظل على الدوام منار شموخ المغرب وسيادته.

*عضوة المكتب السياسي لحزب الحركة الشعبية، وباحثة في علم الاجتماع

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x