لماذا وإلى أين ؟

ثقافة المسح على التَّقَاشِير

سعيد الغماز

خلال زيارتي لنسخة ماضية من المعرض الدولي للكتاب، تجولتُ رفقت صديقي في جميع أجنحة المعرض. وفاجأنا العدد القليل من المهتمين بالمحاضرات التي أغنت المعرض في مواضيع تهم الآداب والعلوم الإنسانية والفلسفة والرواية والقصة والفكر والعلوم وتوقيع كتب جديدة.

كانت تلك الفضاءات لا يتتبعها سوى عدد قليل من المهتمين لا يتجاوز العشرات. وفجأة وجدنا قاعة عرض مكتظة بالزوار لدرجة أن الكثير يقف على عتبة المدخل. قلتُ لصاحبي أكاد أجزم أن العرض لا يخرج عن الحديث في قضية فقهية. اقتربنا من القاعة فوجدنا الزوار يتابعون عرضا لمؤلِّف كتاب حول أصول الفقه. قال لي صديقي هذا العدد الكبير للمهتمين بهذا العرض قياسا لباقي العروض نعمة من الله تفيد أن الإسلام بخير. فأجبته أنني أرى عكس ذلك، اهتمام جل المتدينين بعلوم الفقه وإهمال باقي العلوم، لا يخلق سوى تفكيرا غير متوازن بعيد عن جوهر الآية الكريمة ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾البقرة/143، وهي ظاهرة تفسر انحطاطنا الحضاري وتقَدُّم غيرنا من الشعوب. وأضفتُ في تعقيبي على صديقي أن الدين يشمل كل مناحي الحياة، أما التضخم في الاهتمام بفقه الأصول، وإهمال باقي العلوم، إنما يترك الآخر يصنع لنا ما نلبَس ويزرع لنا ما نأكل ويبني لنا أين نسكن وهو واقع ليس من الدين في شيء.

وها نحن نقف هذه الأيام على نقاش فقهي انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي حول المسح على التقاشير والصلاة بالجلوس على الكرسي، في خضم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة. وقد أخذ هذا النقاش بُعدا عابرا للقارات، فبعد تناول الموضوع من قبل فقيه مغربي، تجند فقهاء الكون لهذا النقاش، واحتلت أشرطتهم وسائل التواصل الاجتماعي وكأننا نعيش آخر أيامنا في هذه الدنيا الفانية قبل قيام الساعة. تناول الفقيه المغربي الموضوع وذهب إلى القول إنه لا تجوز الصلاة وراء الماسح على التقاشير، وكأنه اكتشف سرا لم يكن يعرفه لا فقهاء ولا علماء المسلمين منذ أكثر من 15 قرنا. نعم، مضت أكثر من 1400 سنة عن الرسالة المحمدية، والبعض ما زال يناقش مثل هذه القضايا. والملاحظ أن الفقهاء الذين تناولوا موضوع التقاشير أغلبهم لا يخرج للحديث عن الإبادة والتجويع الذي يمارسه الكيان الصهيوني في حق الفلسطينيين، وكأنه لا يقرأ قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الحجرات/10، ولا حديث النبي عليه أفضل الصلوات والتسليم “مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى” (رواه مسلم). ومنهم القليل من تناول موضوع غزة لكن ببرودة قل نظيرها وكأن من يُقتل ليس بإنسان، في حين تجند بكل قواه وطاقته ليرمي بدلوه في المسح على التقاشير.

من الناحية الدينية، لا نملك سوى أن نتحدث باحتراموتقدير سواء عن الفقهاء أو الشيوخ أو العلماء، لكننا في ذات الوقت نقول إنهم بشر قد يُصيبون كما قد يُخطئون. لكن السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا يُناقِش البعض مثل هذه القضايا وقد مضت على الرسالة السماوية 15 قرنا؟ هل هذه القضايا لا يستطيع الفقيه تجاوزها علما أنها قضايا خلافية وكل مسلم يأخذ منها ما يتناسب مع مذهبه. في نفس الوقت نجد علماء الأمة الأجلاء يتحدثون في القضايا التي تهمها وترتبط بدينها كالإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان الصهيوني في حق الفلسطينيين، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، وقضايا التنمية وكسب الرزق، والعيش الكريم…..إلخ. فأين يكمن الخلل؟

الخلل يكمن في الثقافة التي يحملها الفقيه وتلك التي يتمتع بها العالِم الجليل. فالثقافة المنغلقة على ذاتها، وحبيسة القضايا الخلافية، والبعيدة عن روح الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ سورة الحجرات/13، لا يمكنها سوى أن ترمي صاحبها في هامش المجتمع وخارج دائرة الفكر وبعيد عن النقاش الحضاري. والأخطر في هذا التوجه المنغلق على ذاته، والمتقوقع في أفكاره، والجاهل بما يدور حوله، يتهيأ له أنه يمتلك الحقيقة وأنه يُجسد الحق بعينه. ومن الطبيعي أن يوصله فكره المنغلق إلى عدم جواز الصلاة وراء الماسح على التقاشير بعد 15 قرنا من نزول الوحي على سيد الخلق. أما العالِم فيتمتع بثقافة منفتحة على عصره، مهتمة بما تفعله باقي الشعوب ومتطلعة على فكر العصور الماضية، فتكون له رؤية شمولية ونظرة ثاقبة لقضايا الأمة، فتراه يتحدث في جوهر الأمور وليس في هوامشها.

يشهد العالم حاليا صراعا كبيرا حول من سيتحكم في الطرق التجارية على الصعيد العالمي. فالصين تشتغل على طريق الحرير الذي يشكل ميناء اللاذقية في سوريا محوره الرئيسي، في حين تشتغل أمريكا على طريق منافس يشكل فيه ميناء حيفا في الأراضي المحتلة محوره الرئيسي. فأين موقع المسح على التقاشير من هذا البعد الجيو-سياسي؟

وأخيرا أكرر قولي لصديقي الذي رافقني في زيارة المعرض الدولي للكتاب: إن تجمهر المتدينين في فضاء فقه الأصول، وهجرهم لباقي العلوم، ظاهرة غير صحية، وطريق بأفق مسدود. فالفقه الأسير لا يبدع، كما قال الدكتور الفقيه رشيد بنكيران.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي كاتبها

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

5 1 صوت
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

4 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
متتبع
المعلق(ة)
3 مارس 2024 12:17

الفقهاء والعلماء الحقيقيون والذين نكن لهم التقدير والاحترام هم الذين لا يهتمون بالتفاهات ولا ما فيه خلافات بل يعملون على تنوير عقل المسلم وفق الاسلام الوسطي اما اصحاب العمائم المزورة فتراهم يهتمون بالقشور لان عقولهم فارغة .العلم نور والجهل عار والعلم هو كل علم يخدم الانسان ومصالحه الدينية والدنياوية دون تطرف .

ابو زيد
المعلق(ة)
3 مارس 2024 00:20

اليس ذلك راجعا لافلاس المثقف و العالم في العالم العربي؟؟؟
اتظن ان أسطوانة ان الانحطاط راجع لانصات ابناء هذا الوطن الى كاتب كتاب فقهي ما زالت ستجلب الناس إلى تيار مندثر؟؟
المشكلة في ان من يظنون انهم وصايا على عقول الشعب لم يبارح حججه و تبريراته..!
نحن نعيش في نفس الوطن و الغريب هو انك لم تذكر ان مجتمعا انحل من كل ما هو ديني الا اللمم ..و لكن ذلك لم يمنع و لا يمنع من اجتماع الناس حول ندوة فقهية!!
الفشل ليس في اختيارات الناس و توجهاتها الفشل في مثقفين لم يأتوا بجديد و لم يتجرؤوا الا على قضايا دينية!!
الوقوف في الوسط ينفي عن كل تقدمي تلك الصفة العلم و الثقافة لم تختر اية ايديولوجية!!

Dghoghi
المعلق(ة)
3 مارس 2024 14:26

انتهى عصر الفقهاء والمشايخ والظلاميين.. 1400سنة.. والناس تتخبط في االمشاكل والحروب والكراهية والحقد والعاطفة.. ..جاء عصر المثقف المنظر والمفكر والكفاءات المختصة في جميع المجالات والخبراء وعلماء الأحياء وعلماء الاجتماع ووووو.. صافي سدينا من هدوك … صحاب تكرار نفس الاسطوانات.. الوضوء .. ادخل بالرجل اليمنى كول باليد اليمنى.. والزواج والنكاح والانجاب
والمرأة عورة…. لقداختلطت الأمور بشكل ملتوي ودراماتيكي …ولم يعد هناك مساواة سياسية ومستواة اقتصادية، والمساواة الاجتماعية..كما أن الجهاد في الإسلام ليس اصلا في الإسلام لانه يتناقض حرية الإنسان …

فقيه
المعلق(ة)
3 مارس 2024 02:42

تطلبون من الفقيه ان يحل لكم جميع المشاكل السياسية و الاقتصادية و غيرها . اذن ما دور الحكومات و البرلمانات و مئات المجالس و الهيئات و الاحزاب التي تلتهم الميزانيات الضخمة من المال العام للقيام بهذه الادوار, لمذا تتنصلون من المسؤولية و ترمونها على من ليس مطالبا بها من الاصل,
الفقيه كما يفهم من تسميته يجيب عن الامور الفقهية فقط, و من يصلي تهمه قضية المسح على الخفين التي تستخف بها, انتم ايضا تتكلمون عنها من منضور آخر. من الأجدر بكم طرح ما ترونه مهما و تجاهل الموضوع كلية

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

4
0
أضف تعليقكx
()
x