المغرب وتحوّلات الدولة والمجتمع
أصدر مركز الأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية، التقرير الاستراتيجي المغربي (2020-2024) رقم 12. أنجزه فريقُ عملٍ ضمّ مجموعة من الباحثين، وأشرف على جمع وتنسيق ومراجعة موادّه خبراءُ يعملون في الجامعة المغربية. يستوعب التقرير أزيد من 40 ورقة (660 صفحة)، مع مقدمة مكثّفة للمدير العام للمركز، المدير المسؤول عن التقرير عبد الله ساعف. وقد حملت ملاحظات المُقدّمة قراءة في أكثر نتائجه أهمّية، كما بلورتها المعطيات التحليلية والإحصائية المتضمّنة في أوراقه.
ينقسم التقرير بين جزأين كبيرين، نقف في الأول منهما على خرائط العلاقات الخارجية للمغرب، المغرب والقوى العظمى، ثمّ المغرب والمنتظم الدولي. ولا يتوقّف الأمر عند هذا، إذ يتّجه لإبراز علاقة المغرب بدول الجوار، وعلاقاته بالأزمات والمآزق الحاصلة في كلّ من سورية وليبيا واليمن، وعلاقته بالقضية الفلسطينية، ليخصِّص بعد ذلك أوراقاً لآفاق التعاون والتضامن المغربي العربي والأفريقي، وبعض صور تعاون المغرب مع أميركا الجنوبية. أما الجزء الثاني، فقد اتجه لبحث الحياة السياسية الداخلية، حياة المؤسّسات والأحزاب، وحركة المجتمع والتفاعلاتِ السياسية والاقتصادية والمالية، كما توقّف عند بعض أوجه السياسات العمومية، من قبيل إعداد التراب الوطني، وسياسة المدينة، والسياسة التعليمية، وبرنامج الحماية الاجتماعية، والبيئة والمناخ، والإعلام السمعي البصري والسياسة الرياضية. وفي الجزأين معاً، نقف عند حصيلة مكثّفة لمختلف صور الحركة والتحوّل، التي شاركت في تلوين مواقف المغرب وسياساته بسمات خاصّة. وهو يعتمد كثيراً من التفاصيل المهمّة في عمليات الرصد والتشخيص، والمفيدة في عملية تركيب بعض النتائج، التي ترسم المعالم الكُبرى لأبرز التحوّلات الحاصلة في مغرب النصف الأول من العشرية الثالثة للألفية الجديدة.
نتصوّر أنّ التقرير أُعِدّ لترتيب جوانب من التحوّلات الحاصلة في مغرب تتميّز أوضاعه بجملة من السمات التي تتطلّب الوقوف أمام بعض أبعادها، من أجل معاينة نمط السياسات والخيارات المرتبطة بها. نحن نشير هنا إلى السياق الدولي والإقليمي، إذ يمرّ العالم بطور من أطوار إعادة تشكّل النظام الذي يحكم علاقاته، الأمر الذي يكشف أنّ المغرب وجد نفسَه قبالة ضرورة مواجهة جيل جديد من التحدّيات، فانعكس هذا في مختلف توجّهاته الاستراتيجية، كما انعكس في أوجه عديدة من صوّر تدبيره لسياساته العامّة. ويكشف التقرير أنّ حادثة الكركرات الحدودية، التي حصلت يوم 13 نونبر 2020، أدّت إلى نشوء أجواءٍ شبيهة بحالة حرب من دون أن تسمّي نفسها كذلك، وهناك علامات عديدة تبرز ما نحن بصدد توصيفه، من قبيل الحرص على تموقعات استراتيجية، والقيام بمناورات عسكرية، وإنزال أسلحة عديدة إلى المنطقة، وسيادة لغة جديدة في وسائل التواصل الاجتماعي، وإطلاق العديد من البلاغات الحربية. ويستفاد من مواصفات الأجواء التي ذكرنا، أنّ الوحدة الترابية للمغرب أصبحت بمثابة البوصلة الجديدة بلغة التقرير للسياسة الخارجية المغربية.
ترتّبت على مجموع التحوّلات التي فجّرتها الحادثة المذكورة، جملة من النتائج في الخارج وفي الداخل. وضمن هذا السياق، يشير التقرير إلى اتفاقية أبراهام (2020)، التي أُبرمت في عهد الرئيس ترامب بين المغرب وإسرائيل، وربطت اعتراف أميركا بمغربية الصحراء بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وقد واكب هذا الموقف حصول نوع من التحوّل في التصوّرات الدولية عن المغرب، كما واكبه تنويع علاقاته الخارجية مع القِوى الصاعدة مثل روسيا والهند والبرازيل، إضافة إلى توسيع سياساته في التعاون مع أفريقيا، فدُشنّت المشاركة في أنبوب الغاز مع نيجريا.
يُبرِز التقرير أنّ السمة التي تُميّز المغرب (في السنوات التي يُغطّيها) ترتبط أساساً بقدرته التفاوضية مع الداخل ومع الخارج. وفي ضوء هذا، نقرأ في مُقدّمة التقرير أنّ المعطيات التي يستوعبها تتيح لنا إمكانية استشراف الأحداث في المدى الزمني القصير. نحن إذاً أمام تقرير يشخص وضعاً ستكون له انعكاسات وآثار مباشرة وقريبة. وبعض هذه الآثار نعثر على جوانب مهمّة منها مُقدمّته. ولأنّ التقرير اختار موضوعَ القدرة التفاوضية للمغرب، باعتبارها البؤرة الناظمة لسياساته في الداخل والخارج، فقد اتجه إلى بحث تجليات ذلك، مبرزاً صور حضور الدولة في مختلف مظاهر التحوّل الجارية. فتحدّث عن السلطة الواسعة التي أصبحت للدولة بعد التدابير الحمائية التي اتُّخذت عند مواجهتها وباء كوفيد – 19، والتدابير السياسية التي أنتجت في الانتخابات التشريعية (2021) تحالفاتٍ جديدة، وفضاءً سياسياً بمواصفاتٍ مُحدّدة، بعد ولايتَين تشريعيتَين تحت قيادة حزب العدالة والتنمية.
لم تكتفِ الدولة بتدبير ما أشرنا إليه، بل اتجهت إلى إبراز تماسكها وصلابتها من طريق مجموعة مشاريع، فأطلقت مشاريعَ كُبرى في قطاعات البنى التحتية، في الفلاحة والتكوين المهني، وفي الصناعات والطاقات المُتجدّدة والتكنولوجيا الرقمية، والحماية الاجتماعية، وترتّب على هذا الأمر، ليس تهميش الأحزاب السياسية فقط، بل أصبحنا أمام عطالة النسيج الحي لمنظومة القيم السياسية المعارضة. وضمن مناخ تعزيز حضور نمط الدولة الجديدة، عُزّز عمل الأجهزة الأمنية، وتطوير أشكال التأطير الديني، مع محاولات تروم تقوية الحماية الاجتماعية.
ويفيد التقرير بأنّ إرادة تقوية حضور الدولة وأجهزتها، لتكون في مستوى الجيل الجديد من التحدّيات التي تواجهها، لم يوقف بروزَ حركاتٍ تُعبّر عن سخطها على الأداء الحكومي وغلاء المعيشة. كما برزت موجاتٌ احتجاجية تدعو إلى وقف معاهدة التطبيع، الأمر الذي يشير إلى أنّ ملفّات الحركات الاحتجاجية أصبحت تتجاوز اليوم العمل النقابي التقليدي، وذلك ببروز مجموعات غير رسمية، مثل التنسيقيات، ومجموعات الحراك الرقمي، وأشكالٍ جديدة من التعبئة وصناعة الرأي العام، فأصبحنا أمام ظواهر جديدة تستدعي بلغة التقرير مواصلة المتابعة. ونتصوّر أنّ أكثر نتائج التقرير أهميّة تتمثل في الملاحظة الواردة في مُقدّمته، والمتعلّقة بوضع النُّخَب، ووضع منظومة القيم في مغرب يتحرّك بفعل هزّات عنيفة داخلية وخارجية. فقد أصبح التشتّت والانقسام، بمثابة عنوانين ملازمين لنُخَبٍ تُعاين ما يجري أمامها من دون أن يكون بإمكانها المشاركة في وَقْفِه. وفي مقابل ذلك، تسود نوع من الواقعية مُعزَّزة بلغة المصالح، كما تبرز نزعاتٌ فردية أنانية وعدوانية، وتسود فوضى تُؤشّر في بعض أوجهها إلى ما يفيد الانحلال. وربّما لهذا السبب يتحدّث التقرير عن تحوّلات الدولة والمجتمع، وبدايات تشكّل جيلٍ جديدٍ من التحدّيات.
الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.