إدريس بنيعقوب
شخصيا وأنا أشاهد بعض الصور التي التقطت، على هامش زيارة الدولة، المهمة طبعا للمغرب، التي دُعي إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمغرب هذا الأسبوع، ثم عند الاستماع إلى خطابه أمام غرفتي البرلمان، لاحظت بأن الزيارة وأن لغة الزيارة من جهة الفرنسيين وطريقة تدبيرهم لعقولنا بواسطة اللغة والخطاب، طفا في ذهني كتاب قيم، وبحث مرموق أنجزه أحد تلامذة جرمان عياش في مدرسة الرباط للتاريخ، وهو كتاب “المحميون” لمحمد كنبيب.
لا أدري لماذا كان هذا الاستدعاء المستعجل ربما، لهذا الكتاب في ذاكرتي، ولماذا يمكن للذاكرة أن تربط بين واقع جديد وصراع تاريخي بعيد نسبيا، مع ثقافة المحميين التي خربت البلاد في فترة معينة من تاريخ المغرب؟!
وحسب الدكتور كنبيب فإن السلاطين عانوا الأمرين ليس فقط مع المحميين الأجانب، بل كانت الطامة الكبرى هي أن المعاناة مع المغاربة، ومن بينهم فلاحون وتجار وأصحاب البحر وبعض الشرفاء وشيوخ الزوايا ويهود، خالطوا هؤلاء الأجانب وتشبهوا بهم، وتحدوا سلطة المخزن. لقد فكك المحميون شبكة تجار السلطان وأغووا “أهل الذمة”، وأغروا بعض التجار من اليهود المغاربة، الذين انقلبوا هم أيضا على السلطان وعلى المخزن بشكل غريب أقرب إلى الخيانة والغدر، ربما انتقاما من جبروت صاحب الجبايات أو ربما دهشة من قدرات الأوروبيين ودهائهم وجمال لغتهم وأشكالهم، أو ربما رغبة دفينة من التخلص من نظام سياسي برمته!
ومن أهم خلاصات هذا الكتاب، هي أن المؤرخين والمفكرين لم يكونوا ليخطؤوا النظر، عندما اقتنعوا بأن ظاهرة الاستعمار لم تكن لتقع لو لم تكن هناك قابلية لدى الشعوب أو على الأقل لدى الفئات المهيمنة للاستعمار.
لقد رأى المؤرخون أن الحماية في المغرب مثلا شكلت فعلا اجتماعيا، نشأ في مسار طويل ليصبح ثقافة سلوكية وربما عرفا سيكولوجيا، استفادت منه فئات خاصة، وتحول إلى واقع مخيف لدى باقي فئات الشعب، بعدما طغت وتجبرت عليهم فئات المحميين والمخالطين.
حدث ذلك منذ أن تقوى المد التقنيني لآلية الحماية والامتيازات الفردية عبر الاتفاقيات الدولية، على رأسها إتفاقية بيكلارد (Béclard) المخادعة، سنة 1863، ثم معاهدة مدريد الدولية سنة 1880، وغيرها من التدخلات القانونية الدولية أواسط القرن 19 إلى بداية القرن 20. بذلك صار المحميون السياسيون والقنصليون والاقتصاديون والسماسرة والمخالطون (المخالطون هم مغاربة شركاء مع المحميون الاجانب كانوا يتهربون من أداء الضرائب وطلب الحماية القنصلية والأجنبية بعدما يدعون أنهم مجرد شركاء للمحميين)، يهددون سيادة الدولة ووحدة ترابها، بعدما أصبحت الدول الكبرى تهدد المغرب ببوارجها لحمايتهم منها أو ما يسميه كنبيب بـ”ديبلوماسية الزوارق الحربية“.
لقد صار عدد كبير من المغاربة مجانين، سواء في المدن أو في البوادي، سواء تجار أو مجرد عاملين فلاحين بسطاء، سواء متعلمون أو غير متعلمين، يجرون وراء طلب حماية “الفرنصيص” وحماية أصحاب “البصبور”. لقد اصطف العلماء والفقهاء حينها مع المخزن، واعتبروا أن البحث عن الحماية الأجنبية أو مخالطة المحميين بغرض التسلل من أداء الضرائب، فساد ورجس وأفتوا بمقاطعة المستفيدين منها.
لاشك أن العلماء وكل الصادقين من المغاربة الذين انخرطوا حينها في مواجهة، المحميين والمخالطين مسلمين ويهود والذين تمتعوا بحصانة اتفاقية خاصة أباحت لهم التصرف كما يحلو لهم، وأصدروا سلوكيات مستفزة ومهينة للمغاربة.
انطلق العلماء من قناعة صدقها الواقع فيما بعد، وهي أن الامتيازات التي منحت للرعية المغربية من قبل فرنسا وغيرها، ليس حبا في هذه الفئة أو إعجابا بها، وإنما كانت أداة سخرت للتوغل “بعمق في أحشاء الدولة المغربية”، مستغلة هرولة مغاربة نحو تغيير وضعهم القانوني الاستثنائي، إلى التملص من الانتماء للمغرب ثم التصرف في الثروات خارج حسابات المخزن وضغوطاته.
فتعطلت بذلك وظائف الدولة، من أهمها عدم الخضوع للضريبة أو لمحاكم البلاد ولقوانينها، واختل الاقتصاد، حتى وصل الأمر ببعض المغاربة إلى ترك سلعهم تسرق وتنهب، من أجل سبب خبيث وهو مطالبة المخزن بعد ذلك بتعويضات جد مرتفعة، مقارنة مع السلع المسروقة، إضافة إلى سرقات وهمية مصطنعة أخذوا مقابلها تعويضات عن غير وجه حق.
هي كلها سلوكيات ساهمت في تآكل وتفكك مؤسسات الدولة المغربية، وفي السعي إلى تحويل المغرب إلى دولة صغيرة القدرات والتنظيم، أي إلى “الحد الأدنى من الدولة“.
لقد كان هؤلاء المحميون والمخالطون جزءا من لعبة جد معقدة بتحديات كبيرة ومتعددة، في صراع هيمنة قوي، بين المخزن والدول الامبريالية، وللأسف انتصر هؤلاء الخونة لهذه الدول على حساب المغرب والسلطان والمخزن.
وقد وصف كتاب “المحميون”، كل هذه المظاهر بدقة كبيرة، مستندا على الأرشيف والوثائق تحديدا، كما تحدث عن كون معاهدة الحماية لسنة 1912، كان في نفس الوقت ترسيخا لهذه المظاهر بعد تأطيرها بشكل مختلف، وأيضا تقويضا لنظام الحماية القنصلية، فتحولت المنظومة من حماية الأفراد إلى حماية الدولة بالطريقة التي أرادت فرنسا.
هذه الجراح القديمة المسكوت عنها، تنبعث في ذاكرتنا من منطلق الحرص على استقلالية واستقلال بلدنا أمام الأطماع الجديدة، وأمام الزحف المخيف للقوى الكبرى على العالم، وأيضا نتذكر ذلك كلما شاهدنا تلك الهرولة بسرعة الضوء نحو ظل دول وثقافات الدول المستعمرة سابقا. جراح طفت في ذهني بمناسبة خطاب ماكرون وصور المثقفين، الذين اختارتهم فرنسا للجلوس مع رئيسها، أو مع وزرائه والوفد الذي رافقه. لم نشاهد من هؤلاء المثقفين “المغاربة” سوى بعض “أصحاب البصبور”، من يتحدثون أو يكتبون بالفرنسية لرقي فرنسا ومجد لغتها البائرة، وكأنه ليس لدينا مفكرون وفلاسفة وكتاب من نسق فكري مختلف لكنه حاضر بقوة.
بهذه الصور ربما يحاولون وضع قواعد اللعبة الجديدة، الأولوية للمتفرنسين، أن يقنعونا بأنه علينا البقاء في النسق الثقافي الفرنكوفوني، وألا نعلم أبناءنا ثقافة أخرى، ثقافة أكثر انتاجا وفهما وخصوبة، كالثقافة الأنجلوساكسونية واللغة الانجليزية، التي أصبحت مسيطرة على العلوم والتكنولوجيا.
حاول ماكرون استمالتنا بلغة شعرية عاطفية، لا يؤمن بها العقل الغربي بتاتا في العلاقات ما بين الدول، ولا ينبغي أن نؤمن بها أو أن تسحرنا، فلا أمريكا ترحم فرنسا ولا فرنسا ترحم اليونان وهكذا. لن تقدم لأي دولة الهدايا أو الاستثمارات مثلا بناء على العاطفة والشعر، لكن ماكرون حاول أن يكون ذكيا وأن يخاطب عجرفتنا وكبرياءنا وحواسنا، فاللغة كانت دائما وعاء للخطاب الأيدلوجي وللاستمالة السياسية. لقد عبر ماكرون عن فهم قديم نوعا ما للمغاربة، أو عن فهم سطحي مستخلص من عواطف جمهور كرة القدم وكأس العالم وما إلى ذلك، أي من منطلق ذلك البعد العاطفي في شخصيتنا، فنحن ربما كنا عاطفيا نصنع صديقا بسرعة وعدوا بسرعة أكبر، بناء على مزاج أو على عواطف معينة، وربما على الفرنسيين أن يفهموا أيضا أن المغاربة تطور فهمهم للعالم، ولمفهوم القوة وموازين المصالح ببراغماتية قد تخيب أمال ماكرون يوما ما!
لقد بتر ماكرون التاريخ في خطابه ومارس عملية انتقاء تتناسب مع الهدف من خطابه، فأخبرنا مثلا أن السفير عبد الله ابن عائشة ذهب إلى الملك لويس 14، ليخطب ابنته للسلطان مولاي اسماعيل، دون أن يذكرنا بسبب زيارة “رايس القراصنة أو الجهاد البحري” ابن عائشة إلى فرنسا.
هل كان فقط من أجل خطبة وزواج فعلا أم من أجل مفاوضات إطلاق الأسرى والضغط على الملك الفرنسي لتوقف بحريته عن استهداف موانئ المغرب؟
لقد حاول تقديم المولى إسماعيل في نفس توجه عدد من الكتابات التاريخية الفرنسية الكولونيالية، فأظهره رجل شهوة محب للزواج وللنساء، ولم يجرؤ على إبراز الشخصية القوية بهذا السلطان في مواجهة فرنسا وفي عدم التعامل معها وتفضيل بريطانيا عليها في ابرام الاتفاقيات التجارية.
لقد حاول ماكرون أيضا الركوب على القضية الفلسطينية بشكل محرج، في سياق مختلف وأمام برلمان دولة خارج اوروبا، وأمام شعب يؤمن معظمه بشرعية المقاومة الفلسطينية ويلعن الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني، فخرج بذلك بهدف استعماري خبيث عن الأعراف الدبلوماسية، في ضرورة تجنب المواضيع ذات الحساسيات الثقافية والدينية والسياسة بمناسبة زيارات الدولة كهاته، مما يفضح نوايا استعلائية كبيرة، لا تختلف عن منطق فرنسا التوسعية التي تزدري شعوب إفريقيا.
ماكرون الذي شكل حكومة تقنوقراط في بلده، بعدما فشل فشلا ذريعا في إقناع الساسة والأحزاب الكبرى في الانضمام إليه والعمل معه، جاء في خطابه في البرلمان المغربي، ليؤكد أن فرنسا أصبحت ضعيفة. لقد أقر بأن القوى الكبرى اقتصاديا، والفاعلون الكبار في المجال التكنولوجي، لن يعطوا هدايا للمغرب أو لفرنسا، ويدعونا أن نقبل به “مانادجر” manager للاتجار في افريقيا وفي الساحل والصحراء وأن يقتات من رصيد بلدنا، بعدما عاين الجميع صعود المغرب إلى ملاعب الكبار في كل المجالات.
لذلك فإن عودة العلاقة مع فرنسا بشكل طبيعي ومتجدد، ينبغي أن يظل في سياق نظرية “التحالفات الناقصة”، بمعنى قد نتوافق في أمور وقد نختلف جذريا في أمور أخرى، وأن قضية الصحراء واعتراف فرنسا بالحكم الذاتي كحل وحيد للقضية، (رغم أن الحكم الذاتي لغم قد يتحول إلى رغبات انفصال مدعومة خارجيا في زمن ما، خصوصا وأن امريكا فضلت الداخلة على العيون مما يثير المخاوف من مقترحات الجمهوريين الأمريكيين في زمن جيمس بيكر من تقسيم الصحراء)، له مقابل ينبغي أن يظل هذا المقابل في حدود المعقول وألا يصل إلى خلق فئات من “المحميون الجدد” الذين قد يضعون الدولة كلها يوما ما تحت حماية ماما فرنسا!
* دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.
مقال جميل يربط الحاظر بالماضي، لكن مغرب اليوم ليس هو مغرب الامس.