2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
المقابر الإسلامية المغربية.. فراغ قانوني ومطالبة بالنهوض بوضعيتها

*يوسف بنشهيبة
تعد “المقابر الإسلامية” فضاء “ديني وروحي”…، لكن يحز في النفس بالعبارة الصريحة، الحالة التي آلت إليها بعض المقابر الإسلامية ببعض جهات المملكة، في هذا المقال لسنا بصدد معالجة الموضوع من المنظور القانوني، والذي يعرف فراغ، أو من منطلق الحماية الجنائية للمقابر، هذه المقابر الإسلامية والتي تكتسي أهمية دينية وإنسانية وحضارية…، جانب آخر من هذه المرافق تغلب عليه مظاهر انتهاك حرمة الموتى، حيث يعد هذا المشهد هو الغالب على هذه المرافق، أزبال هنا وهناك، أوساخ، أعشاب ضارة، قنينات الكحول في كل مكان، متشردين ومختلين عقليا في حضن القبور وفراشهم السماء، مأوى للمتسكعين، والمعربدين والسكارى، بالإضافة للأشخاص المبحوث عنهم، المروجين للمخدرات، أعمال سحر وشعوذة، الفضاء أصبح مرتعا لمختلف الظواهر الاجرامية.
إن النقاش حول هذا الموضوع قلما يثار في مناسبات قليلة، كأنه موضوع ثانوي، بالرغم من أن هذا الموضوع أهميته كبرى، ويحمل بين طياته إشكالات عدة نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر : الفراغ القانوني، الإهمال الغير المفهوم الصادر عن بعض الجماعات الترابية، في إطار مسؤوليتها في تجهيز وصيانة المقابر، هل هو غياب إرادة سياسية من طرف من يتحملون المسؤولية ؟
المشاكل هي بنيوية في الأصل، وأبعد من ذلك، المجتمع بحاجة إلى “إرادة سياسية” واضحة جدية بمعايير محددة، من أجل تجاوز هذا الإشكال، في الوقت الذي يجب أن نكون قد تجاوزنا مثل هذه الإشكالات، الطبيعي أن تكون المقابر الإسلامية المغربية في المستوى المنشود، لكونها الحاضنة لجثامين المغاربة، وإذا كان إكرام الميت دفنه، فيجب أن يصان قبر هذا الميت، من كل ما من شأنه أن يخل بالواجب والاحترام التام له.
“المقابر الإسلامية المغربية موضوع راهني”، وجزء لا يتجزأ من “المجال الديني”، الموضوع يعيد إلى الواجهة النقاش حول سياسة الجماعات الترابية في التعامل مع هذا النوع من المرافق العامة، كما لا ننكر أن المشاكل هي جمة ولا يستهان بها، كون أن الجماعات الترابية تواجه صعوبات تتعلق بتوفير العقارات اللازمة لإحداث مقابر دفن المسلمين، وهذا ما يؤكد قولنا في الحاجة إلى تبني سياسة واضحة تخص آليات العمران وأشكال البناء، وجمالية وتنظيم هذه الفضاءات، الصيانة، التسييج، والمساحات الخضراء، كما أن العديد من الجماعات الترابية حولت بعض المقابر إلى “مقابر ايكولوجية”، وهذا يعكس استراتيجية محكمة ومتكاملة لإعداد التراب وتأثيث المجال والمشهد، الذي لا يتأتى إلا نتيجة إرادة سياسية واضحة.
إشكالية الفراغ القانوني، وتداخل الإختصاص بين الجماعات الترابية (وزارة الداخلية) والسلطات المحلية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في تدبير المقابر الإسلامية، حيث تعتبر الجماعات الترابية صاحبة الإختصاص الأصيل، في تدبير المقابر الإسلامية، في حين أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تعتبر صاحبة الملكية فيما يتعلق بالمقابر الإسلامية.
والجذير بالإشارة أن التداخل يضم أيضا وزارة الثقافة، كونها مسؤولة عن القبور التاريخية، أو القبور التي تقع في مآثر تاريخية.
الظهير الشريف رقم 1.09.236 الصادر في 8 ربيع الأول 1431 (23 فبراير 2010) المتعلق بمدونة الأوقاف، و الذي ينص في المادة 50 على أن :
” تعتبر وقفا عاما بقوة القانون على عامة المسلمين جميع المساجد و الزوايا و الأضرحة و المقابر الإسلامية …
يتمتع الوقف العام بالشخصية الاعتبارية منذ انشائه، و تتولى إدارة الاوقاف تدبير شؤونه وفقا لأحكام هذه المدونة .”
تتلاقى التنمية المجالية، مع النهوض بوضعية المقابر الإسلامية، كما أن بعض المقابر تختص بجمالية وتدبير جيد، “مقبرة الشهداء بالعاصمة الرباط”، وهذا ما يجب أن تكون عليه المقابر الإسلامية بمختلف ربوع المملكة، بمعايير مغربية إسلامية.
“الحراسة بالمقابر الإسلامية” : لا يمكن تصور مرفق عام بمثل هذه القيمة الدينية وهذا الوزن، بدون حراسة أو تسييج، العديد من الأفعال والممارسات المشينة التي ترتكب داخل هذه الفضاءات، في مس خطير بحرمة الموتى، ومن الجرائم البالغة الخطورة التي ترتكب داخل هذه الفضاءات التي تغيب فيها الإنسانية و الوازع الديني، أشخاص لا هم يحترمون الموتى ولا الفضاء، هدم أو تلويث المقابر، الإخلال بالاحترام الواجب للموتى، انتهاك قبر أو دفن جثة أو استخرجها خفية، تلويث جثــــة أو التمثيل بهـا أو ارتكاب عليها عملا من الأعمال الوحشيــــة أو البذيئة، إخفاء جثة أو ضياعها.
إشكالية الحراسة والتي تتلاقى مع التدبير، حيث يجب أن تزود هذه المقابر بالإنارة اللازمة، وأن تغطي هذه الإنارة مجالات أوسع من هذا الفضاء، التسييج الجيد، تزويد المقابر بكاميرات مراقبة، وحراسة في الفترة النهارية والمسائية، هذه الأعمال والمتعلقة بالصيانة والتجهيز…، تعتبر من الإختصاص الحصري للجماعات الترابية وليست من اختصاص وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما تعد المقابر من بين “الحبوس العامة”، بمقتضى مدونة الأوقاف لسنة 2010، الصادرة بموجب الظهير الشريف رقم 1.09.236، فإن المقابر الإسلامية تعتبر وقفاً عاماً إلى جانب المساجد والزوايا والأضرحة.
كما أن توفير الوعاء العقاري ليس من اختصاص الوزارة، هذه الأخيرة والتي تختص بالإشراف على المقابر و الحفاظ على حرمة المقابر والذود عنها من كل انتهاك بعد نهاية الدفن فيها، مع العلم أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قد خصصت منذ سنة 2008 إلى سنة 2018 ما مجموعه 33 هكتارا للمقابر، وبالرغم من كل المجهودات المبذولة، لا زالت إشكالية النقص الحاد في إيجاد الوعاء العقاري المناسب المخصص للدفن، سواء بالمجال الحضري أو القروي، تطرح في كل مرة.
الجماعات الترابية لا تزال إلى حدود هذه الأسطر تواجه صعوبات متعلقة بتوفير الوعاء العقاري المخصص للمقابر، إضاقة إلى إشكالية الاكتظاظ الذي يؤدي إلى عدم مراعاة المسافة بين القبور، ما يجعلها غير مؤهلة وغير مجهزة لاستقبال موتى المغاربة سنوياً، وهذا ما أكده تقرير لوزارة الداخلية برسم منجزات السنة المالية 2023، والذي أحيل على البرلمان بمناسبة تقديم الميزانية الفرعية للوزارة في مشروع قانون المالية 2024، فضلا على أن بعض المقابر طاقتها الاستيعابية لم تعد تكفي للدفن، وقد جدد بعض أعضاء من مجلس النواب مطالبتهم لوزير الأوقاف بإصدار فتوى للدفن في المقابر القديمة التي انتهى الدفن بها منذ 40 سنة،
وتلوح في الأفق منذ سنوات فكرة “المقابر المتراكبة”، أو ما يصطلح عليه بالدفن العمودي، والذي يقصد به دفن أكبر عدد من الجثث، على شكل طبقات في قبر واحد، من أجل الاستفادة بشكل أكبر من المساحة، والتي تشكل سببا رئيسيا في اعتماد هذا النوع من الدفن، العديد من الإشكالات المرتبطة بدفن الموتى ما زالت تطرح إلى يومنا هذا.
تقرير لوزارة الداخلية برسم منجزات السنة المالية 2023، والذي أحيل على البرلمان بمناسبة تقديم الميزانية الفرعية للوزارة في مشروع قانون المالية 2024، أن الجماعات الترابية تواجه صعوبات من أجل توفير العقارات اللازمة لإحداث مقابر دفن المسلمين، وزارة الداخلية رصدت، خلال الفترة ما بين شتنبر 2022 وغشت 2023، مبلغا يقدر بـ50.70 مليون درهم (5 مليارات و70 مليون سنتيم) لفائدة الجماعات من أجل اقتناء “قطع أرضية لتخصيصها كمقابر جماعية وبناء أسوار وقائية وتجهيز البوابات”.
وزارة الداخلية، وفي إطار سلطة المراقبة، تلعب دورا مهما في إلزام الجماعات الترابية على عقلنة الموارد المالية والبشرية المتاحة، وصيانة المقابر، ومن خلال رصد الاعتمادات اللازمة ضمن ميزانياتها لتأهيل مقابرها، التي تدخل ضمن اختصاصها الأصلي.
” جمعيات المجتمع المدني : لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي توليه بعض جمعيات
المجتمع المدني، من خلال مبادرات وحملات النظافة والصيانة التي تقوم بها داخل المقابر، دون أي مقابل، مع العلم أن هؤلاء المتطوعين قد يعرضون أنفسهم للأذى، ومن خلال ما تمت معاينته، بعض المقابر تضم حيوانات نافقة، شفرات وأدوات حادة في كل مكان، مواد كريهة الرائحة، أعمال شعوذة، قنينات الكحول…، هي مبادرات إنسانية أقل ما يقال عنها أن تنم عن حب وإخلاص كبيرين لهذا الوطن، في الوقت الذي لا تتحمل فيه بعض الجماعات الترابية مسؤوليتها في ذلك، كما لا ننسى أنها تتمتع بسلطات كاملة في مجال “شرطة المقابر”، لكن الواقع يكشف عن غياب لهذه السلطة في بعض المدن، وهذا ما يعكس مشهد الإهمال الذي يكتسي بعض المقابر والتي تمس من كرامة الميت والحي أيضا.
إن العناية والاهتمام بالمقابر، يعكسان مدى اهتمام الجماعات الترابية بكرامة الموتى والاحياء منهم، ارتباطا بالحفاظ على الجانب الجمالي والديني والروحي لهذه المرافق، وهذا كما سبق الذكر، يتطلب إرادة سياسية وبرنامج تأهيل في إطار مشاريع التنمية المحلية، في هذا الصدد يبرز على السطح سؤال جوهري وهو، هل يمكن القول على أنه تلكؤاً من طرف بعض الجماعات الترابية في العناية والاهتمام بالمقابر ؟
لعل هذا الإهمال الذي يطال بعض المقابر الإسلامية بالمغرب، ناتج عن فهم خاطئ سائد في المجتمع، كون هذه المقابر تضم الاموات، وبالتالي فهي مجال ميت لا حياة فيه، وهذا يترجم من خلال الاهمال الذي يطالها، والانتهاكات والأعمال التخريبية التي تتعرض لها باستمرار.
إن الحديث اليوم عن الحالة التي آلت إليها بعض المقابر الإسلامية بالمغرب، كان الأولى أن يكون قد تم القطع مع مثل هذه المواضيع منذ سنوات، فلا يستقيم أن تعاني إلى حدود الساعة بعض المقابر الإسلامية المغربية من الاهمال.
إشكالات عدة تشكل تحديا أمام النهوض ببعض المقابر الإسلامية المغربية، توفير الوعاء العقاري يشكل التحدي الرئيسي الأكبر، إلى جانب غياب تحمل بعض الجماعات الترابية مسؤوليتها المتعلقة بالجانب التدبيري للمقابر.
هذا المرفق الذي يشكل بعد ديني وروحي وجمالي..، ومعلمة دينية تؤوي رفات المسلمين، الذي يجب أن يصان، وتصان في نفس الوقت كرامة الميت والحي أيضا، الذي لا يتبقى بين هؤلاء سوى رابطة صلة الرحم والدعاء…
*باحث في العلوم الجنائية والأمنية
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبه.