2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

*مصطفى الحسناوي
الأنظمة الثورية وعقدة إسقاط الملكية
منذ استقلاله، واجه المغرب عداء دائما من أنظمة ثورية، قومية أو إسلامية أو شيوعية… رأت في المغرب كدولة متجذرة شرعيا وتاريخيا ودينيا… بمشروعها الخاص وهويتها المستقلة. عقبة أمام مشروعها الأيديولوجي.
كما رأت في الملكية نظاما محافظا رجعيا إقطاعيا، ومن بقايا الاستعمار القديم، وأداة للاستعمار الجديد.. خاصة بعد إعلان المغرب توجهه السياسي والاقتصادي، المناقض أو المختلف على الأقل، مع توجه دول المعسكر الشرقي.
فجمال عبد الناصر مثلا منذ انقلابه على الملك فاروق سنة 1952، ورغم بعد المغرب جغرافيا منه، إلا أنه أعلن حربه على جميع الملكيات في المنطقة بما فيها المغرب منذ عهد محمد الخامس. وفي سنة 1958بعد توحد مصر وسوريا، وإعلان الجمهورية العربية المتحدة، بقيادة عبد الناصر، جدد هجومه على الملكية، ووصفها بأنها عقبة أمام التحرر العربي، ثم كان الهجوم الإعلامي والرسمي المصري على المغرب، ابتداء من سنة 1960، لأن المغرب لم يقبل أن ينضوي تحت مشروع عبد الناصر، ولم يركع لزعامته القومية.
سنة 1963سيدعم عبد الناصر الجزائريين ضد المغرب، في حرب الرمال، وفي السنة الموالية عندما عقدت القمة العربية في القاهرة، هاجم عبد الناصر الحسن الثاني، ثم في السنة الموالية 1965سيهاجمه في قمة الدار البيضاء. كما دعم التيارات اليسارية والقومية المغربية المعارضة، محاولا زعزعة استقرار المغرب.
لقد وجد المغرب نفسه محاربا من مصر، مباشرة بعد حصوله على استقلاله، رغم بعده الجغرافي عنها، ورغم أنه لم يؤذها بأي شيء.
ما فعله عبد الناصر سيفعله الجزائريون، بقيادة جبهة التحرير، مباشرة بعد استقلالهم، فمباشرة بعد 1962تبنت الجزائر نظاما اشتراكيا قوميا، متأثرة بالتجارب الناصرية والشيوعية، فجعلت من المغرب عدوا، حتى دون أن يؤذيها بشيء، فقط لأنه نظام ملكي رجعي.
وبنفس عقلية الزعامة، وأحلام القيادة التي كانت عند عبد الناصر، كانت القيادة “الثورية”الجزائرية، تحلم بقيادة مشروع “اتحاد المغرب العربي”، وأرادت أن تقوم بدور الزعيم في العالم العربي وإفريقيا، وكانت ترى في الملكية عقبة أمام ذلك.
بعد حرب الرمال سنة 1963، والتي ساندها فيها عبد الناصر، عقدت الجزائر تحالفات وشراكات، مع الاتحاد السوفياتي وكوبا ويوغوسلافيا… وعدد كبير من دول المعسكر الشرقي، التي كانت ترى في المغرب بوابة للمعسكر الغربي في إفريقيا.
أصبحت الجزائر تهدد أمن المغرب واستقراره ووحدته الترابية، خاصة بعد إنشاء البوليساريو، ودعمها في حروبها وهجماتها ضد المغرب، بالأسلحة المتطورة، وبالتدريب والدعم اللوجستي… في إطار دعم المعسكر الشرقي لما سمي “حركات التحرر”، ومحاربته لما سمي الأنظمة الرجعية.
أصبحت الجزائر مسنودة بعدد من دول المعسكر الشرقي، تشكل تهديدا كبيرا وخطيرا للمغرب، لا لشيء إلا لأنها تعتبره ملكية محافظة رجعية، تقف أمام مشروع تصدير الثورات وتحرير الشعوب…
ما هي إلا سنوات قليلة، ثم ستلتحق ليبيا بالحلف المعادي للمغرب، فبعد انقلاب القذافي على الملكية سنة 1969، سيعلن العداء للملكيات بكل أشكالها، واصفا إياها بالأنظمة المتخلفة، معلنا دعمه للحركات الانقلابية داخلها، خاصة داخل المغرب، واستضاف كل أنواع المعارضين والانقلابيين المغاربة بمختلف توجهاتهم وأيديولوجياتهم، كما دعم عصابة البوليساريو، بالمال والسلاح والتدريب والمؤونة…
وبنفس عقلية وأحلام الزعامة والقيادة أيضا، كان القذافي يحلم بقيادة إفريقيا، ويكون ملك ملوكها، وكان المغرب هو كبش الفداء، الذي ينبغي التضحية به، والعدو الذي ينبغي أن يتوحد الجميع لمحاربته.
نفس الطريق سارت عليه أنظمة البعث في العراق وسوريا، عداوة للمغرب، دعم للبوليساريو، أحلام الزعامة…
دون أن ننسى السعي لتقسيم المغرب، والاعتراف بالجمهورية الوهمية على أرضه، وتسليح المعارضين، ودعم المحاولات الانقلابية التي وقعت في المغرب في السبعينات، بل وحتى تنفيذ عمليات إرهابية داخله في التسعينات.
إسرائيل.. علاقة اضطرار أم اختيار
لقد وجد المغرب نفسه تلقائيا مع المعسكر الغربي، محتاجا لدعمه، من أجل مواجهة أسلحة ومؤامرات المعسكر الشرقي، ووكيلتاه الجزائر وليبيا.
ووجد نفسه محتاجا للتقنية الإسرائيلية، لمواجهة آلة الحرب الجهنمية السوفياتية، التي كادت تبيد خضراءه، ولولا دعم سعودي فرنسي أمريكي إسرائيلي مبكر، لكانت أسلحة واستخبارات الاتحاد السوفياتي وكوبا وألمانيا الشرقية وفيتنام… اخترقت العمق المغربي، وربما أبيد المغاربة أو تم الاستيلاء على أرضهم، من طرف الجزائر والبوليساريو.
لم يستطع المغرب وقف زحف عصابات البوليساريو التي كانت تقتل المدنيين في الجنوب، وتنفذ هجماتها في العمق المغربي، بأسلحة متطورة، بدعم من كل الدول المذكورة وغيرها، إلا بعد بناء الجدار الأمني بمساعدة إسرائيلية وتمويل سعودي وأجهزة رصد إسرائيلية، وأسلحة أمريكية وفرنسية.
فالجزائر وليبيا في الحقيقة، بجلبهما لدول المعسكر الشرقي، وأسلحته واستخباراته ومؤامراته… هما من دفعا المغرب للبحث عن طوق النجاة أينما وكيفما كان، وقبلهما مؤامرات عبد الناصر وحزب البعث، وسعيهم الحثيث للإطاحة بالملكية، لا لشيء إلا لأنها ملكية، لم تركع لأحلام وأوهام الزعامة، عند هذه الأنظمة الثورية، التي رأينا الآن مآلها كلها، ومآل ثوراتها وشعوبها وبلدانها.
التحالف مع إسرائيل إذن كان خيارًا اضطراريًا، أملته مصلحة وطنية عليا، ترتبط بأمنه وبوجوده، خاصة بعد معارك نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، التي كاد فيها المغرب ينهار. وترتبط بملف الصحراء المغربية، وهو الملف الذي يعتبره المغرب قضية وجود لا قضية حدود، حيث لعبت التكنولوجيا الإسرائيلية، لا سيما في مجالات الدفاع والمراقبة، دورًا مهمًا في تعزيز قدرة المغرب على مواجهة التحديات الأمنية والعسكرية.
المغرب إذن كان مضطرا للتحالف مع الشيطان، من أجل النجاة والبقاء، بعد أن وجد نفسه في محيط عربي وإفريقي يريد استئصاله وتقسيم ترابه.
إيران.. عداء عقائدي عابر للقارات
إذا كان العداء الشيوعي للمغرب من طرف أنظمة المنطقة، مجاني وغير مبرر، فإن العداء الشيعي للمغرب، شخصيا أجده مبرَّرا.
فعلى عكس الأنظمة القومية والبعثية والثورية، التي بدأت المغرب بالعداء، وتآمرت ضده رغم أنه لم يبدأها بذلك، فإن إيران الخمينية، وجدت نفسها أمام مواقف اتخذها المغرب تجاهها ابتداء، (لأسباب كثيرة سنعرض بعضها) دفعتها لاتخاذ موقف عدائي، يشبه موقف الأنظمة الثورية وشبه الثورية المحسوبة على المعسكر الشرقي.
عداء الأنظمة الثورية وتحرشاتها بالملكية المغربية، دفعت المغرب للاحتماء والتحالف مع ملكيات المنطقة، ومن بين الملكيات التي كانت حليفة للمغرب، الملكية في إيران، فقد جمعت المغرب وإيران الشاه، تحالفات سرية وعلنية، منها التحالف الدولي السري “سافاري كلوب”، وغيره من التحالفات، كما أن إيران الشاه دعمت المغرب في بعض حروبه.
لذلك عندما قامت الثورة الخمينية ضد الملكية في إيران، كان ذلك في غير صالح المغرب، لاعتبارات عقائدية وقومية وسياسية واستراتيجية…
وبعد هروب الشاه إلى المغرب، وحماية المغرب له، كان ذلك مستفزا للثورة الإيرانية، التي أصبحت علاقتها فاترة مع المغرب، ثم تحول الفتور إلى عداوة، بعد دعم المغرب للعراق، في الحرب بين البلدين التي بدأت سنة 1980، في إطار التضامن العربي.
كما اعتبر المغرب إيران تهديدا كبيرا له، مدفوعا بالخوف من تصدير الثورة، وتصدير التشيع… خاصة بعد الدعم الإعلامي والديبلوماسي لما يسمى بالجمهورية الصحراوية، والدعم العسكري لبعض كوادر البوليساريو، وتوفير التدريب لهم في لبنان، وفي هذا السياق، جاءت فتوى تكفير الخميني، بأمر من الحسن الثاني، سنة 1980.
كما عبر الحسن الثاني سنة 1981في مؤتمر في الدار البيضاء، وآخر في فاس في نفس السنة، عن رفضه تصدير الثورة وهاجم محاولات إيران التدخل في دول الجوار.
من جانبها اعتبرت إيران، الملكية المغربية نظاما جاهليا، يشكل جزءا من المحور المناهض للثورة الإسلامية، كما اعتبرته متواطئا مع الغرب والصهيونية، ففتح المغرب الباب على مصراعيه، للخطاب السلفي، على أمل إحداث توازن عقدي، بعد أن بدأت تظهر جماعات إسلامية، متشيعة سياسيا، قبل ظهور التشيع العقدي بسنوات.
وهكذا بدأت تتشكل بذور عداوة ستضرب بجذورها عميقا، وترخي بظلالها على ملفات كثيرة. خاصة مع استحضار علاقة إيران الجيدة بالجزائر، التي كانت دعمت الثورة الخمينية، وكانت من أوائل من اعترف بإيران الجديدة، كما أنها في كل الحروب والتدخلات العسكرية التي شاركت فيها إيران، كانت الجزائر، إما داعما لإيران، أو على الأقل طرفا محايدا، ففي الحرب العراقية الإيرانية، لم تدعم الجزائر العراق، ولم تندد بالتدخل الإيراني في العراق وسوريا واليمن.
وهكذا بقيت إيران دائما، في منطقة الشكوك والاتهامات من طرف المغرب، بتهديد أمنه ومصالحه ودعم خصومه وأعدائه، وكان آخر اتهام من المغرب لإيران سنة 2018، عندما اتهمها بأنها تدعم البوليساريو، وهو الشيء الذي نفته إيران، ومع ذلك هناك شكوك كثيرة بأن هذا الدعم قائم، خاصة مع توالي التقارير، بقتال مجموعات من البوليساريو إلى جانب نظام بشار، واعتقال بعضهم وإغلاق مقرهم من طرف النظام السوري الجديد.
المغرب.. ظروف جيوسياسية وعلاقات استراتيجية معقدة
مع تصاعد التوترات والاعتداءات.. وجد المغرب نفسه في السنوات الأخيرة داخل شبكة معقدة من التحالفات الإقليمية والدولية، فرضتها الظروف الجيوسياسية المحيطة به، ومن ذلك إعلان التطبيع رسميا. (مع أن معنى التطبيع في الحقيقة، هو إعادة العلاقات بعد عداء وقطيعة، وهو ما لم يحدث في حالة المغرب).
هذا التطبيع الذي جعله البعض شماعة لمهاجمة المغرب في كل وقت وحين، دون أن يعرف جذوره وأسبابه ودوافعه، ودون أن يفرق بين العلاقة الوظيفية الاستراتيجية البراغماتية، وعلاقة التبعية والعلاقة الأيديولوجية، ولا بين الاضطرار والاختيار، ولا بين الموقف من التطبيع والموقف من إسرائيل… فقد يكون لدولة ما، موقف من كيان أو نظام، لكنها مضطرة للتعامل معه، فالمغرب يتعامل مع إسبانيا رغم احتلالها لجزء من أرضه، ومرسي كان مضطرا للاعتراف بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل والالتزام بها، واليوم نرى أحمد الشرع يفعل أكثر من ذلك، وقبله تميم وأردوغان… كلهم يتعاملون مع إسرائيل لسبب أو لآخر، رغم الشعارات التي يرفعونها، والأيديولوجيات التي يتبنونها، نفس الشي بالنسبة للعلاقة مع أمريكا، من طرف الكثير من الدول الشرقية، رغم العداء والمنافسة.
اليوم، ومع احتدام المواجهة بين إيران وإسرائيل، يبدو أن المغرب أمام مأزق استراتيجي بالغ التعقيد. انتصار إيران وتراجع إسرائيل في هذه الحرب (رغم أن هذا غير وارد) سيخلق واقعا إقليميا جديدا، قد لا يكون في صالح المغرب. فتزايد النفوذ الإيراني في المنطقة سيوفر دعما مباشرا أو غير مباشر للجزائر، ويشجعها أكثر على التصعيد ضد المغرب، سواء عبر دعم البوليساريو أو عبر أدوات الحرب الإعلامية والديبلوماسية، وربما أبعد من ذلك. كما أن أي تراجع لإسرائيل قد يحرم المغرب من شريك تكنولوجي واستراتيجي فعال في ظل التوازنات الحالية.
غير أن السيناريو المعاكس لا يخلو بدوره من مخاطر. فهزيمة إيران وانفراد إسرائيل بالهيمنة في المنطقة، قد تدفع الأخيرة إلى استغلال تفوقها لفرض أجندتها السياسية والأمنية بشكل أكثر عدوانية.
فإسرائيل (كما أظهرت التجارب)لا تتحرك فقط بمنطق التحالفات، بل أيضا بمنطق الهيمنة وإعادة رسم الخرائط، بما يضمن مصالحها فقط. وهي ليست على استعداد لقبول وجود قوة مستقلة، حتى وإن كانت خارج نطاق الصراع (تهديداتها لتركيا وباكستان وتحرشاتها المستمرة بسوريا الجديدة رغم الانبطاح التام لهذه الأخيرة). وهذا ما يجب أن تنتبه إليه بعض الأصوات التي ترى في إسرائيل حليفًا استراتيجيًا دائمًا للمغرب، متجاهلين أن موازين القوى حين تختل، تتغير السياسات، وتظهر النوايا الحقيقية، والمشاريع والأحلام الجديدة.
شخصيًا أنا مع تحالفات متوازنة، وعلاقات براغماتية، بعيدة عن التبعية. وهذا يقتضي بناء قوة ذاتية، للتفاوض والتحالف من موقع الندية، ومادامت هذه القوة الذاتية لا توجد بعد، فإن مصلحة المغرب، ليست في الرهان على فوز طرف ضد آخر، مصلحة المغرب ليست في انتصار إيران ولا في تفرد إسرائيل، بل في بقاء الكفة متوازنة، حتى لو كان توازنا هشا، لأن انهياره في أي اتجاه، سيكون له ثمن باهظ على المغرب.
ومن يظن بأن إسرائيل، إذا تفردت بالمنطقة، وأصبحت هي صاحبة اليد العليا، والكلمة الأولى والأخيرة، ستبقى في حاجة إلى التطبيع أو الاعتراف، أو ستسعى لبناء علاقات عادية مع دول الجوار، أو ستهتم بالسلام، فهو واهم.
وطالما أننا لم نبن بعد قوة وطنية كافية، تسمح لنا بأن نبني علاقات وتحالفات من موقع الندية لا الاضطرار، فإن التوازن الإقليمي هو مظلة حماية مؤقتة، إلى حين امتلاك مقومات القرار الاستراتيجي الحر. وفي انتظار ذلك، فإن الحياد الذكي والتعامل البراغماتي هما السبيل الأمثل لحماية المصالح الوطنية المغربية في هذا العالم المتغير بسرعة.
صحافي وكاتب مغربي مقيم في السويد.
عضو الجمعية السويدية للصحافيين.
عضو رابطة الكتاب السويديين.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.
موقف متوازن ينأى بنفسه عن لغة التطبيل والتزمير لكل ماهو رسمي، ويبتعد عن كل موقف متطرف عاطفي ومتشنج وتلك هي نعمة التفكير العقلاني الذي ينبع من الاحتكاك بثقافة الغرب.
كلام منطقي براغماتي صحيح لي التفكير