2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
السقوط الأخلاقي والمؤسساتي للجامعة ليس قدَرا… بل نتيجة لعقلية مريضة داخلها

عبد الحق غريب
عندما تهتز مؤسسات عالمية (كالكنيسة والجامعة…) على وقع فضائح أخلاقية أو غيرها، تخرج المجتمعات لتواجه الانحراف، لا لتبرره أو تبرئه.. أما عندنا في المغرب، فغالبا ما يقابَل كل كشف للفساد داخل الجامعة العمومية أو غيرها بتبريرات واهية وشعارات عن المؤامرة والاستهداف، ومحاولة حماية المتورطين وطمس الفضيحة.
هذا المقال يدعو إلى مقاربة مختلفة، ألا وهي مواجهة الواقع بجرأة ومسؤولية، ومساءلة الفاعلين ومحاسبتهم في حينه بدل تحصينهم، وإعادة الاعتبار للجامعة، بدلا من تغليف الفساد بقداسة زائفة.
لست بحاجة إلى التذكير بقدسية الكنيسة الكاثوليكية، ولا برمزيتها الدينية ومكانتها التاريخية في المجتمعات الغربية.. لكن ما ينبغي الوقوف عنده هو أنه حين تنفجر فضيحة جنسية تهز أركان الكنيسة في أي دولة أوروبية أو غيرها، فإن هذه القدسية لا تمنع وسائل الإعلام من الخوض في الموضوع على نطاق واسع، من خلال تقارير مفصلة، وبرامج حوارية، وموائد مستديرة، وفتح نقاش عمومي يتناول القضية من مختلف الزوايا، بجرأة ومسؤولية.
لا أحد يتحدث عن استهداف الكنيسة، ولا عن مؤامرة ضد رجال الدين، ولا أحد يقول إن الأمر يجب أن يُطوى حفاظا على الصورة الرمزية للمؤسسة الدينية.
إن الهدف من تلك النقاشات والحوارات والتقارير هو مساءلة الكنيسة، ومحاسبة من تورطوا في الفساد أو تستروا عليه، وضمان عدم تكرار الانحرافات ذاتها، بما يصون كرامة الضحايا ويعزز ثقة المجتمع في المؤسسة الدينية.
إنها مقاربة تعتبر أن النقد الصريح والنقاش العمومي لا يسيء إلى المؤسسة، بل يُسهم في إصلاحها وتجديد مشروعها الأخلاقي والاجتماعي.
والأهم في كل هذا، أنه يتم فتح تحقيق في الموضوع، والاستماع إلى المتورطين والمتواطئين والضحايا.. وقد يظهر الضحية بوجه مكشوف وحتى بعد مرور سنوات على اغتصابه، ثم تصدر الأحكام.
الأمثلة لا تعد ولا تحصى، في فرنسا واسبانيا وإيطاليا وألمانيا ودول اخرى أوروبية وأمريكية.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في يوليوز من سنة 2022، قضت محكمة في لوس أنجليس بالسجن 16 عاما وثمانية أشهر على “ناسون خواكين غارسيا”، زعيم كنيسة “لا لوز ديل موندو” التي تتخذ من المكسيك مقرا لها، بسبب التحرش الجنسي.
في المغرب، عندما تنفجر فضيحة داخل إحدى الجامعات العمومية، سواء كانت ذات طابع أخلاقي أو إداري، يسارع كثيرون للأسف الشديد إلى التقليل من خطورتها، رغم فظاعتها (فضيحة “الجنس مقابل النقط” بسطات، أو فضيحة “بيع الشواهد” بأكادير…)، معتبرين ما حدث “حالة معزولة” لا يجوز تعميمها، ومحذرين من أن هناك جهات ما تستهدف الجامعة العمومية، وتسعى إلى النيل من سمعة الأستاذ الباحث وضرب مكانته ومصداقيته في المجتمع..و..و.. في محاولة منهم لطمس الفضيحة، دون مساءلة الجذور البنيوية التي تسمح بوقوع وتكرار مثل هذه الانزلاقات، ودون التوقف عند مسؤولية المؤسسة في حماية الطالبات وضمان بيئة جامعية سليمة.. وكأن المطلوب هو دفن الحقيقة باسم حماية صورة الجامعة، وصون سمعة وكرامة الأستاذ الباحث.
اما الأخطر من ذلك، هو أن بعض زملاء المتورط كثيرا ما يتجندون بكل الوسائل لحمايته من المثول أمام القضاء أو المجلس التأديبي، تارة عبر الترهيب، وتارة عبر الترغيب… وهو سلوك لا يكرس فقط ثقافة الإفلات من العقاب، بل يشجع على مزيد من التجاوزات والانحرافات.
إن ما تحتاجه الجامعة اليوم ليس التستر على الفضائح وحماية المفسدين، ولا ترديد شعارات جوفاء عن الاستهداف والمؤامرات، بل فتح نقاش جريء ومسؤول، يشارك فيه الجميع، من داخل الجامعة وخارجها (الإعلاميون، علماء النفس والسوسيولوجيا، والطلبة، والمجتمع المدني..).. على أساس ألا يتهرب النقاش من مواجهة الأعطاب البنيوية والسلوكات المنحرفة وتسمية الاشياء بمسمياتها، وان يسعى إلى تشخيصها ومساءلة من يتحملون المسؤولية ومحاسبتهم في حينه.
وحده هذا المسار، المدعوم بإعلام مهني، حر ومستقل، وبانخراط فعلي للمسؤولين من رؤساء الجامعات وعمداء ومديرين في تفعيل آليات المحاسبة والإصلاح، هو الكفيل بتنقية الجامعة العمومية من الفساد والمفسدين، وصونها، وإعادة الاعتبار لمكانتها في المجتمع، ولدورها التنويري الحقيقي.
إن الجامعة العمومية ليست مقدسة، والأستاذ الباحث ليس خطا أحمرا. ومتى اعتُبر النقد جريمة والمساءلة إساءة والتشهير بالمفسدين مسا بالمؤسسة، فقدنا البوصلة الأخلاقية والمعرفية، وحكمنا على الجامعة بأن تظل رهينة الصمت والفساد.
ولعلّ أولى خطوات مواجهة الفساد في الجامعة العمومية، وتحريرها من الأعطاب البنيوية والتواطؤات الصامتة، تبدأ بردع كل من تورّط أو تجاوز بدون تأخير وتماطل، وتفكيك عقلية الأستاذ الباحث المتورمة بوهم الحصانة وقداسة الموقع، مع تحميل المسؤولين بالجامعة مسؤوليتهم الكاملة عن كل تهاون أو تستّر، حتى تستعيد الجامعة دورها الطبيعي والمكانة التي تستحقها داخل المجتمع.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.