2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
الشباب المغربي بين الغضب والعنف: قراءة سوسيولوجية بمسارات متقاطعة

عبد الوهاب الفيعا*
مدخل: حين يتحول الشارع إلى مرآة للأزمة
شهد الشارع المغربي في الآونة الأخيرة موجات احتجاجية شبابية، عبّرت عن مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة، غير أن بعضها انزلق نحو سلوكيات عنف وتخريب. هذا المشهد يفرض نقاشاً هادئاً ومسؤولاً حول طبيعة هذه التعبيرات: هل هي مجرد أحداث عابرة، أم انعكاس لأزمة اجتماعية أعمق يعيشها جيل جديد في زمن التحولات الرقمية المتسارعة والاضطرابات الاقتصادية المتراكمة؟
إن فهم هذه الظاهرة يتطلب مقاربة متعددة الأبعاد، تتقاطع فيها الزوايا السوسيولوجية والسياسية والاقتصادية والرقمية، بعيداً عن التبسيط المخل أو الإدانة السريعة.
البعد السوسيولوجي: الغضب الجماعي كتنفيس عن الحرمان النسبي
من زاوية سوسيولوجية، يمكن فهم هذه الاحتجاجات باعتبارها شكلاً من أشكال التنفيس الجماعي عن توترات متراكمة. فالشباب المغربي – خاصة الجيل – Z يعيش تناقضات حادة بين طموحات كبيرة تُغذيها الثورة الرقمية والانفتاح على الثقافة العالمية، وبين واقع محلي يتسم بالبطالة المرتفعة، وتراجع فرص الحراك الاجتماعي، وصعوبات الإدماج المهني والمجتمعي.
يرى إميل دوركهايم أن الانفعالات الجماعية تعكس خللاً في منظومة الاندماج الاجتماعي، وضعفاً في الروابط التي تجمع الأفراد بالمؤسسات. وهذا ما نلمسه بوضوح في خروج الغضب من العالم الافتراضي إلى الشارع، حيث يتحول الإحباط الفردي إلى فعل جماعي يبحث عن الاعتراف والإنصات.
كما يساعدنا مفهوم “الحرمان النسبي” في تفسير هذه الديناميكية: فالشباب لا يقارن وضعه بالماضي فقط، بل بما يراه يومياً على الشاشات من نماذج حياة وفرص لا يستطيع الوصول إليها، ما يعمق الشعور بالظلم والإقصاء.
البعد السياسي: أزمة ثقة وفراغ في الوساطة
من جهة ثانية، لا يمكن إغفال أزمة الثقة العميقة التي تميز علاقة الشباب بالمؤسسات التمثيلية التقليدية. فالأحزاب والنقابات والهياكل الوسيطة، التي كان من المفترض أن تقوم بدور التأطير والوساطة بين المجتمع والسلطة، أضحت بعيدة عن اهتمامات جيل جديد يتفاعل أساساً عبر منصات رقمية سريعة ولا مركزية.
هذا الفراغ الوسيطي يجعل الاحتجاجات أحياناً تنفجر دون تأطير سياسي أو نقابي واضح، ما يجعلها أكثر عرضة للانزلاق نحو العنف أو التلاعب. غياب قنوات حوار فعالة ومؤسسات تمثيلية يثق فيها الشباب يحول الشارع إلى الفضاء الوحيد المتاح للتعبير، بكل ما يحمله من مخاطر الفوضى والاستقطاب.
البعد الاقتصادي: هشاشة متفاقمة وآفاق مسدودة
البطالة المرتفعة بين صفوف الشباب، غلاء المعيشة المتصاعد، وصعوبة الاندماج في سوق الشغل تشكل أرضية خصبة لمشاعر الإحباط واليأس لدى آلاف الشباب. هذه العوامل الاقتصادية لا تُنتج فقط مطالب مادية ملحة، بل تولّد أيضاً شعوراً عميقاً باللاجدوى وانسداد الأفق، قد ينفجر في شكل غضب جماعي عنيف.
الهشاشة الاقتصادية لا تعني فقط قلة الدخل، بل تعني أيضاً غياب الأمان، وتآكل الكرامة، والشعور بالعجز عن التخطيط للمستقبل. وحين تجتمع هذه العوامل مع الإحساس بالتهميش السياسي والاجتماعي، تتشكل بيئة متفجرة يصعب التحكم فيها.
هنا يظهر بوضوح كيف تتقاطع العوامل الاقتصادية مع السوسيولوجية والسياسية في صناعة الانفعال الجماعي وتحويله إلى فعل احتجاجي قد يخرج عن السيطرة.
البعد الرقمي: عدوى الاحتجاج وتسريع الغضب
الفضاء الرقمي منح الشباب قوة غير مسبوقة للتعبير والتنظيم والتعبئة. ووفق رؤية مانويل كاستلز، نحن أمام “مجتمع الشبكات” حيث تتحول المشاعر الفردية بسرعة فائقة إلى موجات جماعية عابرة للحدود الجغرافية.
مواقع التواصل الاجتماعي لا تعكس فقط الغضب، بل تسرّعه وتكثّفه وتنشره بشكل فيروسي، لتنتقل “عدوى الانفعال” من الشاشة إلى الشارع في ظرف ساعات. هذا يفسر الطابع المفاجئ والسريع لبعض موجات الغضب، والصعوبة في استباقها أو احتوائها بالطرق التقليدية.
لكن هذا الفضاء الرقمي سلاح ذو حدين: فهو يتيح التعبير الحر والتنظيم السريع، لكنه أيضاً يسهل انتشار الشائعات والاستقطاب الحاد والتحريض على العنف، في غياب آليات تنظيم فعالة ووعي رقمي نقدي.
بين الغضب المشروع والتأطير الضروري: نحو مقاربة متكاملة
المطلوب اليوم ليس إدانة مطلقة للاحتجاجات ولا تسويغاً غير مشروط للعنف، بل محاولة جادة لفهم الظاهرة في تعقيدها وتشابك أبعادها. الاحتجاج الشبابي يحمل في جوهره دلالة إيجابية على الحيوية الاجتماعية والرغبة في التغيير، لكنه قد ينزلق نحو العنف والتخريب إذا ظل خارج التأطير والمسارات المؤسسية السليمة.
لذلك تبرز الحاجة الملحة إلى:
أولاً: تعزيز القنوات الوسيطة بين الشباب والمؤسسات، من خلال إصلاح حقيقي للأحزاب والنقابات والهياكل التمثيلية، وخلق آليات حوار جديدة تتماشى مع لغة الجيل الجديد وطرق تواصله.
ثانياً: توفير فضاءات متنوعة للتعبير السلمي والإبداعي – ثقافية ورياضية وفنية ومدنية – تسمح بتصريف الطاقات الشبابية بشكل بناء، وتخلق بدائل حقيقية عن الشارع كمساحة وحيدة للتعبير.
ثالثاً: تطوير التربية الرقمية والتفكير النقدي في المنظومة التعليمية وعبر برامج التوعية، للحد من تأثير عدوى الغضب الافتراضي وتمكين الشباب من التمييز بين المعلومة والشائعة، وبين التعبير المشروع والتحريض المدمر.
رابعاً: سياسات اقتصادية واقعية وطموحة تستجيب بجدية لتطلعات إدماج الشباب، من خلال تشجيع ريادة الأعمال، وإصلاح الصحة، والتعليم والتكوين المهني، وخلق فرص عمل لائقة تحفظ الكرامة وتفتح آفاق المستقبل.
خاتمة: من عنصر قلق إلى رافعة تغيير
ما تعيشه الساحة المغربية اليوم ليس مجرد “انفلاتات أمنية” يمكن ضبطها بالحلول الأمنية وحدها، بل هو انعكاس لأسئلة عميقة ومصيرية حول موقع الشباب في المجتمع، ومدى قدرة المؤسسات على الإنصات والاستجابة لتطلعاتهم المشروعة.
إذا أُحسن الإنصات لهذا الجيل وتوجيه طاقاته الهائلة نحو مسارات بناءة، يمكن أن يتحول من عنصر قلق وتوتر إلى رافعة حقيقية للتغيير الإيجابي والتنمية المستدامة. أما إذا استمر الفراغ الوسيطي والتهميش الاقتصادي والتجاهل المؤسسي، فإن الشارع سيبقى المساحة الوحيدة المتاحة للتعبير، بكل ما يحمله من احتمالات الفوضى والعنف وضياع الفرص.
الخيار اليوم ليس بين القمع والتساهل، بل بين الفهم والإهمال، بين الاستثمار في المستقبل والرهان على الحلول الآنية. والثمن الحقيقي للإهمال لن يدفعه هذا الجيل وحده، بل المجتمع بأكمله.
*باحث في الفلسفة وقضايا حقوق الإنسان من المغرب
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.