لماذا وإلى أين ؟

من المجانية إلى التكوينات المؤدى عنها: هل يفتح القانون الجديد الباب لتغيير فلسفة التعليم العالي؟

بدر اعليلوش

منذ إقرار دستور 2011، ظلّ مبدأ مجانية التعليم العمومي أحد المرتكزات الأساسية للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في المغرب. وقد كرّس هذا الدستور، في فصله 31، التزام الدولة والمؤسسات العمومية بضمان الولوج المتكافئ إلى التعليم دون تمييز أو تقييد مالي. غير أنّ التحولات الاقتصادية والبيداغوجية التي يشهدها قطاع التعليم العالي، دفعت نحو البحث عن صيغ جديدة لتأمين التمويل وتنويع العرض التكويني.

وفي هذا السياق، جاء مشروع القانون 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي، ليقترح إعادة هيكلة شاملة للجامعة المغربية، ولعل أكثر ما أثار الجدل ما ورد في المادة 81 التي تُجيز لمؤسسات التعليم العالي تنظيم تكوينات مؤدى عنها في إطار الزمن الميسر. هذا المقتضى فتح نقاشًا حادًا حول مدى انسجامه مع مبدأ المجانية ومع الطبيعة غير الربحية للجامعة العمومية.

ينبغي في البداية التذكير بأن الجامعة مرفق عام، يخضع في تنظيمه وتدبيره لمبادئ المساواة والاستمرارية والجودة. وبمقتضى القانون 01.00 المنظم حاليًا للتعليم العالي، إذ تعد الجامعة مؤسسة عمومية ذات طابع غير ربحي، تموَّل أساسًا من ميزانية الدولة لتقديم خدمة تعليمية مجانية في مستويات الإجازة والماستر والدكتوراه. ومن ثَمّ، فإن الحق في التعليم العالي المجاني يظل قاعدة أصلية تتيح لكل مواطن الولوج إلى المعرفة على قدم المساواة.

غير أن الجامعة الحديثة لم تعد مقتصرة على التكوين الأساسي، بل أصبحت مطالبة بتنويع عروضها البيداغوجية والتكوينية. فإلى جانب التكوينات العادية المجانية، ظهرت الحاجة إلى تكوينات موازية ومؤدى عنها تستجيب لمتطلبات فئات خاصة من الطلبة والمهنيين والموظفين. وهذه الصيغ لا يُفترض أن تمس جوهر المجانية، بل تُعدّ آلية لتقوية موارد الجامعة الذاتية ولتوسيع قاعدة الاستفادة في إطار التكوين المستمر والزمن الميسر.

في هذا الإطار، جاءت المادة 81 من مشروع القانون 59.24 لتقنين واقع كان يمارس جزئيًا في بعض الجامعات دون سند قانوني صريح، وذلك بالسماح بتنظيم تكوينات مؤدى عنها في الزمن الميسر. وهو توجه يبدو، في ظاهره، خطوة نحو المرونة البيداغوجية وتكافؤ فرص التعلم مدى الحياة. لكنه، من جهة أخرى، يثير تساؤلات دستورية ومؤسساتية عميقة.

فمن زاوية الدستور، يُطرح سؤال التوفيق بين هذا المقتضى وبين الفصل 31 الذي يُلزم الدولة بضمان مجانية التعليم في مؤسساتها العمومية. وإذا كانت التكوينات المؤدى عنها ستنظَّم داخل نفس الجامعات، فإن ذلك قد يؤدي إلى ازدواجية في الخدمة العمومية: تعليم مجاني للفئة النظامية، وتعليم بمقابل لفئة أخرى داخل المؤسسة نفسها، مما يُمكن أن يمس بمبدأ المساواة في الولوج.

الاجتهاد القضائي المغربي بدوره أكد هذه الفلسفة. فقد اعتبرت محكمة النقض في قرار لها أن الجامعة العمومية ليست مؤسسة ربحية، ولا يجوز لها فرض رسوم على التكوين الأساسي. وهو القرار الذي صدر في ظل القانون الحالي (01.00) الذي لا ينص على التكوينات المؤدى عنها، مما يجعل المادة 81 من المشروع تمثل تحولًا تشريعيًا نوعيًا يسعى إلى إدخال عنصر “الأداء المالي” ضمن المرفق العمومي.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذا التحول يجد مبرره في الحاجة إلى تنويع الموارد وتنمية قدرات الجامعة التمويلية دون التفريط في مبادئ العدالة والمجانية. فالقانون المقترح لا يلغي المجانية، بل ينشئ مسارًا موازياً للتكوين، يُوجّه بالأساس إلى فئات مهنية قادرة على الأداء، في إطار ما يُعرف بالتكوين المستمر أو التوقيت الميسر. وبالتالي، فإن التحدي ليس في وجود الأداء المالي ذاته، بل في كيفية تنظيمه وضبطه قانونيًا حتى لا يتحول إلى مدخل لتسليع التعليم العمومي.

إن المادة 81 من مشروع القانون 59.24 تضعنا أمام مفترق طرق تشريعي بين المحافظة على مجانية التعليم كمبدأ دستوري، والسعي إلى تحديث الجامعة من خلال تنويع صيغ التكوين ومصادر التمويل.

ولعلّ الطريق الأمثل هو ارساء مقاربة مزدوجة: التكوين الأساسي المجاني كحق أصيل، وفتح المجال أمام التكوينات المؤدى عنها في إطار قانوني واضح، يضمن الشفافية، ويربط الأداء بالخدمة الإضافية لا بالحق في التعلم نفسه. بهذا فقط يمكن أن نحافظ على روح العدالة الاجتماعية التي كرسها دستور 2011، دون أن نُعطّل دينامية الإصلاح الجامعي التي يسعى إليها مشروع القانون 59.24، في أفق بناء جامعة مغربية حديثة، منفتحة، ومستدامة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x