لماذا وإلى أين ؟

مبادرة الأمم المتحدة للحكم الذاتي

نوفل البعمري

القرار الصادر يوم 31 أكتوبر 2025 تحت عدد 2779 يُعدّ من القرارات الأممية التي ستُدخل ملف الصحراء في مرحلة جديدة من مراحله، وهي الخامسة على مستوى تطور مضامين القرارات انعكاسًا على الوضع العسكري والسياسي، وكذا الأمني، من خلال تحديد المسار السياسي وإعطائه دفعة جديدة، خاصة وأنه مسار انطلق مع المسيرة الخضراء التي عززت التواجد الشرعي للمغرب في أقاليمه الصحراوية الجنوبية. فالملف اليوم يدخل مرحلته الخامسة من مراحل تدبير الملف أمميًا، اعتبارًا لكونه عاش أربع مراحل سابقة يمكن إجمالها في:

  1. مرحلة الحرب (حتى حدود 1991):
    وهي المرحلة التي شهدت فيها المنطقة حربًا ضروسًا كانت تنطلق الهجمات من الأراضي الجزائرية. والثابت من خلال مجموع الشهادات التي سِيقَتْ حول هذه الحرب، أن الجيش الجزائري كان مسؤولًا عن التدريب وعن توفير العتاد العسكري السوفياتي لمليشيات البوليساريو، كما كان ينظم الهجمات وتشارك عناصره فيها متخفية وسط المليشيات والعناصر المسلحة التابعة للبوليساريو. لم تنتهِ هذه الحرب إلا بمنعطفين: الأول عسكري مرتبط ببناء الجدار العازل الذي أوقف الهجمات وأعطى للمغرب تفوقًا تكتيكيًا حدّ من الهجمات وتسبب في حدوث خسائر فادحة في صفوف المليشيات وداعميهم. الثاني انهيار المعسكر الشرقي، مع ما عنَاه ذلك من انحسارٍ للدعم السياسي والعسكري للجزائر والمليشيات، فكان أن فرضت الأمم المتحدة على المليشيات توقيع اتفاق وقف إطلاق النار معها، بعد توقيعها لنفس الاتفاق مع المغرب، لتفتح الباب أمام عملية سياسية وفقًا للقرار الصادر سنة 1991.
  2. المرحلة الثانية: انطلاق المسلسل السياسي على أرضية استفتاء تقرير المصير
    انطلقت هذه المرحلة، اعتبارًا لكون الاتفاق قد حدد مهمة المينورسو في مراقبة وقف إطلاق النار، وتنظيم تبادل الزيارات بين الأسر، ثم العمل على تهيئة الأجواء لتنظيم “استفتاء” تقرير المصير. وهنا كانت الأمم المتحدة ما زالت متأثرة بمفهوم كلاسيكي لتقرير المصير الذي كان مختزلًا فقط في “الاستفتاء” باعتباره الشكل الذي يعبر عن تقرير المصير، وهو الفهم الذي كان يُقدَّم آنذاك. وانطلق المسلسل السياسي بانخراط من المغرب وبرعاية أممية، لتفشل الأمم المتحدة في جميع مخططاتها السياسية لتنظيم الاستفتاء لأسباب واقعية وديموغرافية وقبلية وسياسية كذلك، فكانت استقالة بيتر فان واليوم، المبعوث الأممي، الذي أعلن عن استحالة تنظيم استفتاء تقرير المصير، فكانت نقطة إعلان إقبار هذا الطرح.
  3. المرحلة الثالثة: الحكم الذاتي يكتسب الشرعية الأممية
    هي المرحلة التي انطلقت سنة 2007 بتقديم المغرب لمقترح الحكم الذاتي الذي أصبح منذ تلك السنة يأخذ مكانته ضمن المسار السياسي للنزاع، ويحصد الاعترافات المتزايدة به دوليًا ثم أمميًا، حيث أصبحت الأمم المتحدة تعتبره حلًا ثالثًا إلى جانب الانفصال والاندماج الكلي. فتم العمل على إدماج تدريجي لفكرة الحكم الذاتي التي كانت ما زالت مبادرة مغربية مُقترحة لطي الملف تتلمس طريقها نحو اكتساب الشرعية الأممية والدولية. وهي الشرعية التي كسبتها المبادرة بفضل العمل الدبلوماسي الذي تم القيام به من خلال تنويع الشراكات، والترافع الدبلوماسي بمختلف الأدوات الرسمية وغير الرسمية، وتزايد توسع دائرة أصدقاء المغرب من المؤمنين بالطرح المغربي والذين عمدوا في كل فترات طرح مسودات قرارات مجلس الأمن الدفاع عن هذه الفكرة، حتى اكتسبت المصداقية والمشروعية داخل وثائق الأمم المتحدة وأصبحت جزءًا من الأدبيات الأممية التي تتناول ملف الصحراء سواء داخل الجمعية العمومية أو مجلس الأمن.
  4. المرحلة الرابعة: إسقاط استفتاء تقرير المصير
    هي مرحلة إسقاط استفتاء تقرير المصير من حسابات الأمم المتحدة ومن قراراتها الصادرة منذ سنة 2018، حيث باتت الأمم المتحدة تستبعده في قراراتها الصادرة عن مجلس الأمن وعن تقارير الأمين العام للأمم المتحدة التي يقدمها للمجلس قبيل استصدار أي قرار، بحيث بات مصطلح “الحكم الذاتي” كمبادرة مغربية يأخذ مساحته الكبرى من لغة الأمم المتحدة القانونية والسياسية، ويتم الاعتراف به كحل وحيد، ذي مصداقية، وجدي. تزامن كل ذلك مع توالي الإعترافات الأممية بمغربية الصحراء وتزايد تجسيد حجم التأييد الدولي للمغرب بفتح قنصليات أجنبية بالصحراء، وبعثات دولية بالعيون والداخلة، وتأكيد عدة دول كبرى باعترافها بالحكم الذاتي كمبادرة وحيدة. ليكون قرار ترامب الرئاسي علامة في تحول سلسلة هذا المد الدولي الداعم لمغربية الصحراء سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا، لتأتي بعده إسبانيا ثم ألمانيا وفرنسا لتصل لأكثر من ثلثي دول الاتحاد الأوروبي داعمة للمبادرة المغربية، وكل هذا تزامن مع عودة المغرب للاتحاد الأفريقي الذي شهد تحييد هذا الإطار القاري من النزاع وانخراطه رسميًا في دعم المسار السياسي الأممي، مع دعم أفريقي كبير ومتزايد لمغربية الصحراء ولمبادرة الحكم الذاتي.
  5. المرحلة الخامسة: مبادرة الحكم الذاتي تتحول إلى مبادرة أممية
    هي التي انطلقت اليوم باعتراف الأمم المتحدة الصريح، الغير القابل لأي تأويل، ليس باعتبار الحكم الذاتي مبادرة مغربية، بل مع قرار 2779 تحولت إلى مبادرة أممية. وستكون بذلك وبشكل صريح الأرضية الوحيدة لأي مفاوضات سياسية بين المغرب ومختلف الأطراف وعلى رأسها الطرف الأساسي الجزائر.

قيمة القرار كونه حسم الجدل الأممي حول باقي الخيارات وكرّس الوضع القانوني القائم المبني على شرعية ومشروعية التواجد المغربي في أقاليمه الجنوبية، وفتح الباب لحوار سياسي من أجل طي هذا النزاع على أساس أرضية وحيدة اكتسبت الشرعية بهذا القرار الأممي باعتبار مبادرة الحكم الذاتي مبادرة أممية، مما سيضفي شرعيات أخرى لهذه الشرعية السياسية-الأممية، وعلى رأسها مشروعية الأعمال الاقتصادية والتجارية التي يقوم بها المغرب في المنطقة من خلال الاتفاقيات الاقتصادية التي يبرمها وتشمل إقليم الصحراء المغربي، وبالتالي سينتهي الجدل القانوني المُفتعَل مع الجدل السياسي الذي كانت تشهده المحاكم الأوروبية حول اتفاقيات التبادل التجاري والاقتصادي الذي يجمع المغرب بأصدقائه الأوروبيين.

إذًا، بالعودة لمضمون القرار، فقيمته تمتد لأربعة مستويات:

أ. المستوى القانوني:
الأمم المتحدة أنهت فصلًا طويلًا من الجدال السياسي والقانوني حول التأويل الذي كان يتم لمفهوم وتعبير ومطلب “تقرير المصير” الذي كان يُراد إعطاؤه فهمًا وحيدًا متمثلًا في “الاستفتاء”. وهو فهم مرتبط بتصفية الاستعمار الكولونيالي، وغير مرتبط بالمغرب، اعتبارًا لكون هذا الأخير لم يتم توثيقه يومًا في أدبيات الأمم المتحدة بكونه قوة “محتلة” لإقليم الصحراء الغربية-المغربي، بل كان يتم وضعه ضمن خانة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والتي تحتاج لتصفيتها بناءً على ميثاق الأمم المتحدة وتحديد مركزها القانوني وفقًا لمسارات التسوية السياسية. وإقليم الصحراء الغربية-المغربي كان دائمًا يعالج ضمن هذه الخانة وتحت بند المادة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة التي تتحدث عن حلول سياسية متوافق بشأنها. لهذا، فالقرار اليوم يعكس تحولًا في فهم الأمم المتحدة لمبدأ “تقرير المصير” وأدمجت من خلال هذا القرار بشكل رسمي وواضح فكرة “الحكم الذاتي” كتعبير قانوني لتقرير المصير. ولهذا، قد تستفيد دول أخرى من هذا القرار، كالتي تشهد تهديدات بالتقسيم وخلق دويلات هجينة كالتلي كان يُراد خلقها جنوب المغرب، نموذجًا الصين علاقةً بإقليم التيبت، وروسيا علاقة ببعض الدويلات التي ظلت مرتبطة بها بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي…

ب. المستوى السياسي:
المبعوث الأممي اليوم لن تكون له أية حجة لكي لا يُلزم الطرف الأساسي في النزاع وفي مسار التسوية السياسية باحترام مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد وأممي، والذي لم يعد بموجب هذا القرار مجرد مقترح مغربي، بل انتقل ليكون أرضية الأمم المتحدة لطي النزاع. وهذا مكسب سياسي كبير للمغرب الذي استطاع أن يُضفي مشروعية سياسية أممية على مقترحه ويجعلها الحل الذي تتبناه بشكل واضح الأمم المتحدة، خاصة وأنه صادر عن مجلس الأمن الذي يعتبر الهيئة الأممية “التحكيمية” التي تصدر قرارات وليس توصيات. والفارق بينهما كبير من حيث الأثر؛ فالقرار الصادر عن مجلس الأمن مُلزِم للأطراف المعنية به، عكس التوصيات التي تصدر عن الجمعية العمومية التي تظل توصياتها غير ملزمة للدول المعنية بها. لذلك، فمبادرة الحكم الذاتي لم تعد اليوم مجرد مسودة اقترحها المغرب، بل انتقلت لأرضية أممية على قاعدتها ستنطلق المباحثات والمفاوضات، وسيكون المبعوث الأممي مقيدًا بها ولا يمكن الانزياح عن مضمون القرار، لأن هامش الحركة والتأويلات السابقة لمضامين القرارات التي كانت تفتح الباب لتقديم قراءات متباينة حول منطوق مجلس الأمن قد تم طيّه بتعبير نص القرار 2779 الذي لم يأتِ على ذكر أي خيارات سياسية أخرى غير الحكم الذاتي، ولا أشار لمقترحات البوليساريو ولا لما ظلت تقدمه الجزائر من طروحات متجاوزة، بل وقف فقط عند الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد، وكأرضية وحيدة ستنطلق منها وتتأسس عليها أية عملية سياسية مستقبلية.

ج. المستوى الاقتصادي:
لقد شهد المغرب عدة معارك قضائية مفتعلة أمام المحاكم الأوروبية وأمام قضاء دول الاتحاد الأوروبي، وكانت كلها معارك يفتعلها الطرف الآخر لكي لا يُضفي المشروعية على الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي كان يوقعها ويبرمها المغرب مع الاتحاد الأوروبي ودوله، لاستعمال تلك الأحكام القضائية سياسيًا، من خلال محاولته انتزاع قرارات قضائية تستند على المعطى السياسي وبعلة كون النزاع ما زال يعالج أمام الأمم المتحدة. وقد كان في أحيان كثيرة يستصدر القضاء الأوروبي أحكامًا قضائية مخالفة للحقيقة والحق، ويعمل على تقديم تعليل لقراراته يستند على قراءة الخصوم ولوبياته الاقتصادية بأوروبا للتشكيك في مشروعية الاتفاقيات الاقتصادية المغربية-الأوروبية، وبهدف ابتزاز المغرب اقتصاديًا وماليًا من طرف هذه اللوبيات الاقتصادية الأوروبية، ولمعاكسة المغرب سياسيًا. من بين ما كان يتم الاستناد عليه لتبرير هذه التوجهات القضائية الشاذة هو التأويلات المتعددة لقرارات مجلس الأمن السابقة. لكن اليوم، مع قرار 2779، سيكون المغرب قد أنهى هذا الفصل ولن يكون للقضاء الأوروبي أي هامش لكي يشكك في الاتفاقيات الاقتصادية للتبادل التجاري المغربي-الأوروبي، بل في حال تم اللجوء إليه لكي يتم التشكيك في مشروعية التصرفات القانونية ذات الطابع الاقتصادي التي يقوم بها المغرب، سيكون القضاء الأوروبي مُلزمًا باحترام مسلسل التسوية السياسية في صيغته الجديدة الذي أصبح مستندًا على الحكم الذاتي باعتبارها مبادرة أممية ذات طابع سياسي ولها أثر قانوني. وعلى أساس منظور القانون الدولي، فالحكم الذاتي يقوم على إضفاء المشروعية على مختلف الأعمال والمعاملات التجارية والاقتصادية للدول التي تدير وتُدبِّر الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، بالتالي فالقضاء الأوروبي سيكون ملزمًا باحترام وتطبيق هذه القاعدة مهما كانت طبيعة القضايا والدعاوى التي تُرفع أمامه بخلفية سياسية.

د. مستوى ولاية بعثة المينورسو:
قرار مجلس الأمن الذي أعطى معنى وحيدًا لفكرة تقرير المصير متمثلًا في الحكم الذاتي، سيكون قد ساهم في تغيير ولاية بعثة المينورسو. هذه البعثة التي أُنشئت بناءً على اتفاق وقف إطلاق النار التي كانت من بين مهامها، إلى جانب مراقبة الوضع الأمني، والإشراف على تبادل الزيارات بين الجانبين، كانت لها مهمة سياسية متمثلة في الإشراف على “استفتاء تقرير المصير”، وهي المهمة التي كانت تحدد ولايتها السياسية الكبرى، وعلى هذا كان قد انطلق المسلسل السياسي. وفي كل مرحلة من مراحل تطور العملية والمسلسل السياسي، كانت ولاية بعثة المينورسو تُطرَح كموضوع نقاش سياسي وجدل كبير يمتد لمختلف مكوناتها خاصة المكون المدني الذي سحبته الأمم المتحدة بضغط من المغرب بعد توالي قرارات مجلس الأمن منذ سنة 2018.

ما بعد قرار 2779 سيكون وبشكل رسمي قد أقرت الأمم المتحدة بتغيّر ولاية بعثة المينورسو لتنتقل من ولاية تمتد للجانب السياسي إلى جانب تقني وأمني فقط، بعد أن تم إسقاط “الاستفتاء” من رؤية مجلس الأمن لتنسحب على البعثة نفسها ومهمتها ثم ولايتها العامة بالمنطقة. بعثة المينورسو اليوم وقع تحول على مستوى ولايتها التي لم تعد مرتبطة بتنظيم الاستفتاء، انتقلت رسميًا للإشراف على تأمين و مراقبة وقف إطلاق النار، ونزع الألغام، والضغط على الجزائر للعودة لمسلسل تبادل الزيارات بين الجانبين الذي توقف بعد رفض غالبية الأسر التي كانت تزور المغرب العودة للمخيمات. هذا التحول لم يعد فقط بناءً على قراءة مغربية لمضامين قرارات مجلس الأمن السابقة، بل تحول مرتبط بمضمون قرار 2779 الذي تبنى خيار مبادرة الحكم الذاتي كخيار وحيد لطي الملف وعلى أساسه ستنطلق العملية السياسية مجددًا وستتحدد من جديد بشكل رسمي مهمة وولاية بعثة المينورسو.

ما بعد قرار 2779 ليس كسابقه، هي مرحلة جديدة ليس فقط لحظة وطنية بل لحظة ترتبط بتحول جذري في قراءة الأمم المتحدة للملف والمداخل الممكنة لطيّه. لقد انتقلت الغالبية العظمى من الدول العضوة بمجلس الأمن، خاصة منه الأعضاء الدائمين الخمسة، إلى الإيمان بفكرة وروح مبادرة الحكم الذاتي التي استجابت لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، فكانت لكل المسار الذي قطعته والدعم الذي تلقته أن انتقلت من كونها مبادرة مغربية إلى مبادرة أممية: مبادرة الأمم المتحدة للحكم الذاتي.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.

50

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x