2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
عن مسرح الدار البيضاء الكبير.. كيف تقتل الوظيفة روح الإبداع
الأستاذ الرغاوي عبد العزيز
أمر على الأقل مرتين كل أسبوع أمام السياج المحيط بمسرح الدار البيضاء الكبير وأنا أقصد سوق البحيرة لبيع الكتب المستعملة، حيث أنقب بين ركام الكتب والمجلات عن بضاعة أجد فيها بعض المتعة الروحية أو على الأقل فرصة للهروب من الضجر الذي يستبد في أغلب الأحيان، أجدني وأنا أسير على بعد عشرات الأمتار من مدخل بناية المسرح مشدوها أمام معمار هذه البناية البديع، وهو بناء مضت على إنشائه ما يربو عن خمس سنوات أو أكثر، ولم يستقبل إلى اليوم أي نشاط ثقافي أو عرض مسرحي يذكر، فأتساءل : ” لم ترصد الميزانيات الضخمة لإقامة منشآت لا يستفيد منها المواطنون الذين تقتطع نفقات بنائها من حر مالهم، إذا ظلت مغلقة في وجوههم لا تغشاها إلا الرطوبة وطيور الحمام و الحشرات الطائرة والزاحفة ؟”، أيدرك هؤلاء المسؤولون أن برمجة إقامة أي مؤسسة ينبغي أن يخضع أولا ل” دراسة جدوى” حتى لا يهدر المال فيما لا طائل من ورائه. لقد ابتلينا منذ عقود بهذا الولع المرضي بكل ما هو ضخم وعملاق، أكبر علم وأكبر طاجين وأكبر عجة omelette وأكبر براد شاي وأكبر مسرح، والحال أن قيمة المؤسسات لا تقاس بضخامتها وضخامة المبالغ التي تنفق لإنجازها، بل تقاس بعدد الأنشطة التي تستقبلها وقيمتها.
أنفقت ملايين الدراهم لإنشاء مسرح لم يفتتح إلى اليوم، وما استقبل أي عرض مسرحي ولا يبدو أنه سيتم تدشينه قريبا. وسيظل قائما في انتظار غودو، الذي قد يأتي وقد لا يأتي، إنها لعنة حقيقية أن تنشئ بناء من هباء تنفق مبالغ طائلة لذلك، وتتركه للفصول تتعاقب عليه وللسنوات تبليه وتعده للتداعي والسقوط على الرغم أن عامة الناس وخاصتهم لديهم شغف ل “استهلاك” المنتوج الثقافي، مدينة عملاقة كالدار البيضاء تمر فيها وعليها شهور، دون أن يرى النور عرض مسرحي واحد. رباه !!! ما هذا القحط على حين تعرض بأصغر مدينة أوربية عشرات المسرحيات وتقام ما يعادلها من حفلات الموسيقى وعروض الرقص. هل قدرنا أن نحيا بلا أدنى ذرة جمال في وطننا نأكل ونشرب وننام وتنجب البنين والبنات ولا نظفر بما من شأنه أن يعمق إنسانيتنا ويشحذ خيالنا ويجعلنا نحيا لحظات بهية تكسب حياتنا بهجة مالها نظير .
طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي شهد المغرب حركة مسرحية وفنية نشيطة رغم ندرة الإمكانيات ورغم التضييق على حرية الإبداع والتعبير في نسق سياسي كانت من سماته حينئذ الانغلاق وتكميم الأصوات المزعجة، كان مسرحالهواة ينتج عشرات المسرحيات بتقشف كبير، وكان المؤلفون يبدعون نصوصا مسرحية غنية، ينقلها المخرجون إلى الخشبة فيحضر النظارة من كل حدب وصوب ليتابعوها، وكان النقد الصحفي يرصد كل هذه التجارب المسرحية ساعيا إلى الكشف عن مواطن القوة والخلل في منجزها ، أمام اليوم وقد اتسع فضاء الحرية نسبيا، نجد أنفسنا أمام جذب إبداعي مقلق ومخيف حقا، ألم يعد ثمة مبدعون يؤلفون نصوصا يبثون فيها رؤاهم وتصوراتهم عن العالم والطبيعة وبني البشر ، هل نضب معين الإبداع إلى هذا الحد المخزي؟ ألم يعد ثمة بصيص أمل في أن نرى مبدعين مسرحيين يعيدون إلى المسرح المغربي بعض القه؟ ما الذي أدى إلى هذا الوضع الذي يبعث على الغضب والأسى؟
لابد أن ثمة عللا وأسبابا أدت إلى انحسار ذلك المد الذي شهده المسرح المغربي تأليفا وإخراجا وأداء ومتابعة جماهيرية ونقدية، لقد خبا الشغف الذي كان يرتبط بمد اليسار بشتى مشاربه الذي كان رافدا يتعلم في كنفه المبدعون كيف يفكرون وكيف يحلمون بعالم مغاير أكثر عدالة وإنصافا، تداعى عالم الأحلام الجماعية، وحل محلها حلم الخلاص الفردي الصغير وطغت النزعة الفردانية وعادات الاستهلاك المفرط والمرضي، فصار هاجس عموم الناس رفيعهم ووضيعهم كسب المال لا غير وإنفاقه لإشباع نزوات سخيفة، وأصبح من يداعب حلما جماعيا قوامه التضحية والتضامن والمساواة محط استغراب إن لم يكن عرضة للتهكم والسخرية، وكان المؤلفون في مجال المسرح يطلعون على التجارب المسرحية المشرقية والغربية بخاصة، فقرؤوا لبرتولد بريخت ولبيتر بروك وللويجي بيراندلو ولأنتونان أرتو وغيرهم من أعلام المسرح العالمي النابهين، ومزجوا ذلك ببعض صنوف الأشكال الفرجة التراثية أو المحلية، فأبدعوا نصوصا ذات قيمة فنية وجمالية لا يمارى في أصالتها أحد.
ورغم أن جل من كانوا يشتغلون في مجال التمثيل وغيره من مكونات العرض المسرحي لم يكونوا قد تلقوا تكوينا متينا في مؤسسات متخصصة، بل كانوا فقط يشاركون في بعض المحترفات والدورات التكوينية المحدودة، ولم يكن التكوين المتوفر حينذاك سوى ما تقترحه معاهد الموسيقى والتمثيل التابعة للجماعات الحضرية، حيث كان بعض الممثلين ذوي الخبرة والكفاءة يلقون دروسا في فنون الأداء والإلقاء وغيرها لمرتادي هذه المعاهد من الشباب، ورغم شح الإمكانيات وندرتها، فلقد نشأ طيلة ما يناهز ثلاثة عقود جيل من الممثلين برهنوا على حنكتهم وعلو كعبهم في جل ضروب الأداء المسرحي، والسر في ذلك كله هو الشغف والطموح والرغبة الجارفة في الفهم والتعلم. لكن قبل عقدين تقريبا، تم إنشاء المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالعاصمة الرباط، وشرع الطلبة الحاملون الشهادة البكالوريا يلتحقون بالمعهد حيث يتلقون دروسا نظرية وتطبيقية في كل ما يتصل بالفنون المسرحية وتقنيات التنشيط الثقافي، وتخرج من المعهد الفوج تلو الآخر من الممثلين والمخرجين و المتخصصين في مجال السينوغرافيا وغيرهم، وأنشأ بعضهم فرقا مسرحية، وقدموا عروضا مسرحية نالت إعجاب النظارة والنقاد، لكن هذا الحماس ما لبث أن انحسر، وتوقف كل شيء بين عشية وضحاها، كان الأمل معقودا أن تنشأ فرق مسرحية تجوب البلد مدنه وقراه ومداشره لتقدم عروضها المسرحية تنقل إلى الناس غذاء روحيا هم في أمس الحاجة إليه.
فما الذي حكم على هذا الزخم بالنضوب والموت. إنها الوظيفة ولا شيء غيرها، إن الوظيفة تقتل الطموح وتدفع إلى الكسل والخمول، فبدل أن يترك هؤلاء الخريجون لحالهم يجتهدون وينشؤون الفرق المسرحية ويبحثون عن وسائل لتمويل عروضهم ومشاريعهم الثقافية، ألقت بهم الوزارة في أتون الوظيفة الذي لا يبقي ولا يذر، فعينت جلهم في مصالحها المركزية أو مندوبيتها الجهوية، فأصبحوا موظفي مكاتب بدل أن يكونوا ممثلين على خشبة المسرح أو مخرجين أو سينوغراف، أمسوا موظفين ينتظرون أجرتهم نهاية الشهر، فكيف يجتهد ويفكر ويبتكر من لا تدفعه الحاجة والاضطرار إلى ذلك دفعا و رغم أن ثمة رغبة عارمة لدى عموم الناس في ارتياد المسارح ودور العرض، ثمة طلب حقيقي لكن العرض معدوم أغلقت دور السينما قسرا بفعل القرصنة – وهذه جريمة مكتملة الأركان في حق هذا الجيل والأجيال اللاحقة وقاعات المسرح فارغة مظلمة يغطي كراسيها وخشبتها الغبار، والحال، أنه ينبغي أن تبقى أبوابها مشرعة في وجه العموم يقصدها الناس للفرجة والاحتفال، وأن تبقى أنوارها متوهجة وأن تستقبل دون توقف عروضا مسرحية من كل الأجناس والآفاق.
لو كان مسؤولونا يدركون الغاية مما يقدمون عليه من قرارات وما يأتونه من أفعال، لما ساءت أحوالنا على هذا النحو، ينفقون أموالا طائلة في تشييد بنايات تبقى أبوابها موصدة خاوية على عروشها، يكونون عشرات الشبان في مجال المسرح وما يرتبط به من تكوينات موازية، وبدل أن يحثوهم على إنشاء فرق مسرحية تنشط الساحة الفنية والثقافية يدفنونهم أحياء خلف مكاتب أمام أكداس من الورق التي لا طائل من ورائها .
ثمة ذخيرة لا تنفد من روائع المسرح العربي والغربي، يمكن أن يلتمس فيها مبدعو المسرح ضالتهم، دون أن يضطروا إلى مسرحة أعمال روائية وغيرها، أعمال مغربية وأخرى مشرقية، وأعمال لعظماء المسرح الغربي، ومن يعتقد أن مرتادي المسارح لا يقبلون إلا على العروض الكوميدية، فهو واهم ومخطئ، إن جمهور المسرح متنوع تنوع مكونات المجتمع و أذواقه، ثم إن الأعمال المسرحية العظيمة تخاطب القلوب والنفوس من مختلف المشارب والأذواق، فأعمال شكسبير و جوته وفكتور هيجو وإبسن وأرثير ميلر وجون أونيل وتينيسي ويليامز وتشيخوف وفيديريكو غارسيا لوركا وفون كلايست وبوشكين ونوفاليس وغيرهم من عشرات المؤلفين المسرحيين الذين ألفوا في المأساة والملهاة والميلودراما والدراما النفسية وأجناس أخرى هجينة، وإذا توفرت الشغف والاجتهاد فإن نقل هذه الأعمال وعرضها على الخشبة فعل نضال حقيقي وعمل تربوي وعلاج نفسي بواسطة الفن. فلماذا يتخلف خريجو المعهد العالي عن النهوض بمثل هذه الأعمال الجليلة التي ستغل عليهم ما في ذلك أدنى شك مالا وفيرا وحب الجمهور لهم وإجلاله إياهم؟ ما الجدوى مما تلقوه من دروس على مقاعد المعهد إذا لم ينقلوا إلى بني جلدتهم عصارة ما اطلعوا عليه؟ لا شيء يعفيهم من أداء هذا العمل الوطني حقا الذي قوامه صد تيار القبح والرداءة الجارف الذي يكاد يغمر الأرض ومن عليها.
*أستاذ مبرز في الترجمة
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.
ممتاز. تشخيص دقيق لحالة الانحدار والتقهقر الثقافي بصفة عامة والفني والمسرحي بصفة خاصة.
دمت قلما متميزا.
تم إفتتاح المسرح الكبير بالرباط ولكن كم هي العروض المسرحية أو الموسيقية التي قدمها؟ عادة كل مسرح يُحترم يتوفر على برنامجه السنوي مما يُمكن الجمهور من الإطلاع المُسبق وإختيار العروض التي سيحضرها،فما هو برنامج مسرح الرباط؟ ربما سيبقى مجرد قاعة للحفلات الدولية.بعيدا عن هذا أين أهل الميدان؟ لماذا لا يُسمع صوتهم؟ ربما هم يلتزمون الصمت خوفا من فقدان “الدعم”،لماذا لم يرفعوا عريضة إلى الوزارة الوصية على الشأن الثقافي لمطالبتها بالخروج بتوضيح للرأي العام؟ أنا أومن بإستعمال كل الوسائل القانونية للضغط على المسؤولين بما فيه اللجوء إلى القضاء لأن المهم هو إزعاج هؤلاء لكي يتحركوا للعمل بدل الإسترخاء في المكاتب.