لماذا وإلى أين ؟

شارع فريد الأطرش و زنقة يونس شلبي

محمد كرم

مع توسع المدن و تطورها كان من الطبيعي أن تعمد السلطات البلدية إلى وسم الساحات و الشوارع و الأزقة الواقعة على تراب نفوذها بمجموعة من التسميات. كان الهدف و ما يزال مضاعفا. فهناك أولا الرغبة في تسهيل رصد الأمكنة (و إن كان الترقيم يفي بالغرض بشكل أفضل، ذلك أن البحث الميداني التقليدي عن الزنقة 17 أسهل بكثير من البحث عن زنقة محمود سامي البارودي)، ثم هناك الرغبة في تكريم شخصيات بعينها حتى و إن كان انتقاؤها لا يحظى دائما بالإجماع و حتى و إن لم يكن لذكرها وجود بالموسوعات المتداولة. و من يقوم بجولة بأية حاضرة من حواضر العالم سيلاحظ بأ ن معظم التسميات المعتمدة تعود إلى قادة دول و زعماء سياسيين و فاتحين و عسكريين و مقاومين و علماء و مفكرين و رجال دين أبوا إلا أن يتركوا بصمة على صفحات التاريخ قبل ترجلهم عن صهوة الحياة. هذا إضافة إلى تسميات ترمز إلى تواريخ بحمولة تاريخية أو إلى أحداث متميزة أو إلى مواقع جغرافية أو إلى مفاهيم كونية من قبيل “التقدم” و “التعاون” و “الحرية”و “الاستقلال”.

لكــــــــــــــــــــــــــــــن، لماذا تكاد تخلو ساحات و شوارع و أزقة العالم من أسماء الفنانين ؟ هل نصيب هؤلاء من التكريم محدد فقط في إغراقهم بالتصفيقات المدوية و في منحهم جوائز رمزية من وقت لآخر ؟

طبعا أنا لا أقصد هنا كل من اتخذ من الفن وسيلة للاسترزاق لا غير، بل أقصد كبار الفنانين من ذوي المواهب المتفردة الذين خلقهم الله حصريا لصناعة الفرجة الراقية أو للمساهمة في تهذيب السلوك البشري و الذين لولا فنهم ما استطعنا تحمل الحياة، على حد تعبير الفيلسوف نيتشه. أنا أتحدث عن تلك الطينة من المبدعين الذين لا يمكن إطلاقا تصور امتهانهم لمهن أخرى غير تلك التي نقشوا بها أسماءهم على سجل الإبداع العالمي.

فمع احترامي و تقديري لكل أصحاب الوظائف و الحرف البسيطة و المرموقة على حد سواء، هل كان الله سيقبل مثلا أن تكون أم كلثوم مجرد موظفة من الرتب الدنيا بمقاطعة أو جماعة حضرية أو مجرد ممرضة بمركز صحي من المستوى الخامس أو حتى رئيسة وزراء ؟ الجواب لا يمكن أن يكون إلا بالنفي. هذه المرأة وجدت في الدنيا لتعبئ حولها الملايين من عشاق الفن الرفيع و لتوحد العرب بمعنى من المعاني و بطريقتها الخاصة و لتطرب و تشنف المسامع بأعذب الكلام و أروع الألحان. و هل كان بإمكان مؤهلات محمد عبد الوهاب الفنية و الثقافية أن تجعل منه مجرد بواب أو صاحب “هوندا” أو حتى رئيسا للاتحاد المصري لكرة القدم ؟ لا و ألف لا. و هل من العدل أن يكون فنان من قيمة أميتاب باتشان مجرد عامل بمنجم من مناجم الفحم الحجري أو حتى مستشار الأمن القومي ببلده ؟ طبعا لا و ألف لا.

إنه لمن الظلم حقا أن يحظى فنان بشعبية منقطعة النظير و أن تعترف كل شرائح المجتمع بعلو كعبه و أن تغزو تسجيلاته معظم البيوت و آلاف المنصات الإلكترونية و ملايين الحسابات الشخصية على مختلف المواقع و رغم ذلك تستكثر عليه البلديات إطلاق إسمه على مرفق من مرافقها التي قد تعد بالعشرات أو على درب من دروبها التي قد تعد بالمئات. من منا يقضي يومه دون أن يصل مسامعه ما توفر من أنغام موسيقىة ؟ و من منا لا يستأنس بالتمثيليات و المسلسلات و الأفلام كلما سمحت له الظروف بذلك ؟ و من منا لم يسبق له تحمل عناء التنقل إلى مسرح أو قاعة سينمائية ؟ إن وجود الفنانين في حياتنا اليومية لا يقل أهمية عن وجود المفكرين و الأدباء و الأطباء و رجال السلطة و الفقهاء و السياسيين و غيرهم ممن يحملون علما نافعا أو عصا رادعة أو حرفة مطلوبة أو إبداعا يسمو بالنفس و يمتع العين أو الأذن. فكل فئة من هؤلاء تستجيب لحاجة من احتياجاتنا الكثيرة و المتنوعة.

و طوال حياتي لم أرصد سوى حالات تعد على رؤوس الأصابع لفنانين تم تخليد أسمائهم بهذه الطريقة و كأن هناك إجماعا دوليا على تبخيس هؤلاء أشياءهم. لكن هيهات، فلئن غابت أسماؤهم عن شوارع المدن و ميادينها و مؤسساتها العمومية فإن سجلات التاريخ ستحفظها بكل عناية و خاصة في ظل التقدم الهائل الذي يشهده مجال البث الرقمي و علم الأرشفة. و كم من بناية تاريخية ستسقط من تلقاء نفسها أو بفعل فاعل، و كم من تمثال سيفكك أو يهدم تحت ذريعة تصحيح التاريخ، و كم من شخصية عمومية ملأت الدنيا و شغلت الناس و لكن التاريخ لم أو لن يذكرها و لو بسطر واحد، و كم من حدود ستظل تتمدد تارة و تتراجع تارة أخرى بحسب حجم قوة الدولة، و كم، و كم … لكن الأعمال الأدبية و الفكرية و الفنية الراقية ستجد دائما من يرعاها و ينقذها من التلف.

و تزداد حدة الغبن عندما نعلم بأن من بين الفنانين من ضحى بمهنة محترمة أو بحياة أسرية سوية من أجل التفرغ كليا لخدمة فنه و إسعاد جمهوره و إثراء الموروث الكوني اللامادي، بل هناك من المبدعين من عاش فقيرا و مات فقيرا و لم يفطن النقاد إلى قيمة إبداعه العالية ـ و خاصة في مجال الفنون التشكيلية ـ إلا بعد أن يكون التهميش و الإحباط و الموت قد فعلوا فيه فعلتهمم.

فيا من شاءت الأقدار أن تكون صلاحية تسمية المرافق و الفضاءات العمومية بيدهم بمملكتنا العزيزة، لا تحاولوا حجب الأضواء بقطعة بلاستيكية شفافة و اعلموا أن المعطي بنقاسم و إسماعيل أحمد و إبراهيم العلمي و عبد الهادي بلخياط و محمد الحياني و نعيمة سميح أسماء غنائية مغربية من العيار الثقيل، و أن أعمال عبد الحليم حافظ ستواصل السفر عبر الزمن ربما لقرون طويلة (اللهم إلا إذا فسد الذوق العام بشكل مبكر و نهائي)، و أن فيروز تظل بصوتها الملائكي أيقونة الأيقونات، و أن الهرم الشامخ بليغ حمدي يظل بحكم إبداعاته الغزيرة و المبهرة فريد عصره و تحفة زمانه، و أن حفلات شارل أزنافور و خوليو إغليسياس و ميشال ساردو و أريتا فرانكلن و فهد بلان و صباح فخري و وردة لطالما أقيمت بشبابيك مغلقة، و أن الاستماع إلى كارم محمود و محمد قنديل و محمد طه و ليلى مراد و شادية و اسمهان لا يختلف في شيء عن الإصغاء إلى شدو البلابل، و أن فريد الأطرش فلتة من فلتات الزمان، و أن عمالقة التمثيل من قبيل مارلون براندو و كلينت إيستوود و توفيق الدقن و حسن حسني و فؤاد المهندس و صلاح قابيل و محمود ياسين و كمال الشناوي و حسن الصقلي و محمد الرزين و ميريل ستريب و صوفيا لورين و فاتن حمامة و عبلة كامل و نعيمة المشرقي لم نفطن إلى غزو الشيب لرؤوسهم من شدة تعودنا على وجوههم و من فرط مؤانستهم لنا، و أن القالب الذي شهد تشكل جسم يونس شلبي و شخصيته “العلمية و المعملية الفذة” قد تعرض للكسر بمجرد أن قطع حبل سرته، و أن ذكرى الطيب العلج لن تفارق وجدان كل من عاصروه و خبروا نبوغه و أصالته و مواهبه المتعددة، و أن وحيد سيف و عادل إمام و محمد رضا و حسن الفد و مصطفى الداسوكين و محمد بلقاس و عزيز العلوي و محمد الجم و زينات صدقي و ماري منيب و نزهة الركراكي من أظرف و ألطف الفنانين الذين روحوا عن أنفسنا و خففوا عنها ضغوط الحياة اليومية، و أن فيديريكو فليني و أكيرا كوروساوا و مصطفى العقاد و يوسف شاهين و نبيل لحلو مخرجون سينمائيون غير عاديين، ، و أن …، و أن …، و أن … و اللائحة ليست نهائية و لكنها ليست طويلة أيضا.

و بناء عليه، بأي منطق ستستمرون في إطلاق الأسماء باعتماد معايير متحجرة تعكس أحيانا ضيق الأفق و محدودية الإبداع و قفر الخيال و فقر الثقافة ؟ ألا يستحق العملاق الطيب الصديقي مثلا أن يطلق إسمه على مسرح محترم من مسارح المملكة ؟ هل من شأن إطلاق إسم فريد بلكاهية على حديقة عمومية أنيقة و جميلة بمستوى أناقة و جمال لوحاته أن يثير موجة من الاستنكار الشعبي ؟ و ما المانع من وضع إسم ملحن قدير من وزن الملهم رياض السنباطي أو العملاق عاصي الرحباني أو القمة الأطلسية عبد القادر الراشدي أو الرائع عبد السلام عامر أو الموهوب عبد الرفيق الشنقيطي أو الرائد أحمد البيضاوي أو العميد عبد الوهاب الدكالي على واجهة معهد من معاهدنا الموسيقية أو مركز من مراكزنا الثقافية المنتشرة عبر تراب الوطن ؟ و أي ضرر سيلحق بتجزئة سكنية جديدة أو بحي جديد أو ـ على الأقل ـ بجناح أو بقاعة بمرفق عمومي لو حملوا أسماء شعراء غنائيين من طينة فتح الله المغاري أو عبد الرحمان الأبنودي أو جورج براسنس أو أسماء قادة موسيقيين من عيار مولاي أحمد الوكيلي أو أحمد فؤاد حسن أو جيمس لاست ؟

ختاما، ألتمس العذر من كل من يصنف نفسه ضمن الفنانين العظام و لم يرد ذكر إسمه بمتن المقال الذي اكتفيت فيه بسرد أسماء نخبة من ذوي الربرتوارات و الأرصدة الفنية المحترمة لا غير مع التركيز على القدامى منهم في المقام الأول. و طبعا لن أستغرب إذا كشر غلاة الشوفينيين عن أنيابهم و رفعوا الفيتو في وجه أي محاولة لفرض أسماء أجنبية على فضاءاتنا العمومية و كأن وديع الصافي و لويس آرمسترونغ و سيزاريا إيفورا و ماريا تيريزا فيرا و مريام ماكيبا و دينا واشنطن و إيديث بياف كائنات جاءتنا أول مرة محمولة على صواريخ باليستية. الفن لا يفرض بقوة العسكر و هو بطبيعته عابر للحدود و الثقافات و لا يعترف بنقط التفتيش الأمنية و الجمركية. الفن لا ينتشر إلا بالطرق الناعمة، و من له القدرة على إبداع التحف الموسيقية من قبيل “أغار من نسمة الجنوب” و “كليوباترة” و” سألني الليل” و “زي الهوى” و “راحلة” و “القمر الأحمر” و “موسيقى الفصول الأربعة” و “سمفونية بحيرة البجع” و “كونشيرتو دي آرانخويث” ، أو التحف السينمائية من قبيل “ذهب مع الريح” و “تيتانيك” و “الرسالة”، أو التحف الكوميدية من قبيل “البخيل” و “مدرسة المشاغبين” و “العيال كبرت” لا يمكن أن يكون إلا مواطنا عالميا و لا يمكن أن ننتظر منه إلا الخير مهما كانت جنسيته الوطنية… أما من يعتقد جازما بأن الفنانين الراحلين هم الآن ضيوف على مشواة جهنم فأقول له : حبذا لو تفضلت بتزويدنا بفيديوهات أو بصور من مراسم الشواء.

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x