2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
محمد كرم
بمجرد الإعلان عن تنظيم دورة جديدة من “كأس العرب” تعالت من جديد أصوات للتنديد بهذه التظاهرة الرياضية على اعتبار أن الحدث تعبير صارخ عن عنصرية مقيتة بما أنه الوحيد من نوعه في العالم الذي يقام على أساس عرقي. حتى في أدغال أفريقيا هناك من ذهب إلى حد المطالبة بإقصاء دول شمال أفريقيا من المنافسات الأفريقية بسبب مشاركتها المنتظمة في هذه البطولة. ففي عرف هؤلاء الانتماء الجغرافي أهم من الانتساب العرقي، و من ما يزال يؤمن بأولوية انتمائه العرقي و القبلي يعتبر غير مساير للعصر و متخلفا عن الركب و لا مكان له بين دول القارة الأخرى.
مما لا شك فيه أن هذا الموقف ينطوي على سوء فهم هائل. فمعظم الناس بالقارات الخمس يجهلون حقيقة أن ما يصطلح عليه ب “العالم العربي” هو عالم متعدد القوميات لا يمثل العرب الأقحاح فيه سوى نسبة بسيطة (هناك إحصاء غير رسمي يفيد بأن هذه النسبة لا تتجاوز 8% من ما مجموعه 350 مليون نسمة على وجه التقريب)، كما يجهلون حقيقة أن اللغة العربية هي القاسم المشترك الأهم ـ إلى جانب الدين الإسلامي بطبيعة الحال ـ بين مكونات هذه الكتلة البشرية الضخمة و الموزعة جغرافيا على قارتين. نعم، اللسان العربي حاضر بشكل شبه مطلق بالأقطار المكونة لهذا العالم لأسباب تاريخية لا تخفى على أحد ما يجعل منه لسانا مشتركا سهل التعايش بما ينطوي عليه من تواصل و تفاعل و تضامن على امتداد قرون من الزمن و مازال يؤدي هذا الدور بشكل فعال إلى يومنا هذا. و حتى أولئك الذين لم يرضعوا هذه اللغة من أثداء أمهاتهم فإنهم وجدوها في انتظارهم بالأقسام الدراسية فأضحت بالنسبة لهم مكسبا إضافيا لا يخلو من فوائد. كلنا إذن مصنفون كعرب لهذا السبب و ذلك بغض النظر عن انتماءاتنا العرقية الحقيقية و التي لو انبرى كل واحد منا للتنقيب عليها بشكل جدي و علمي سيكتشف العجب العجاب، و لو واصل التنقيب سيصل حتما إلى سيدنا آدم عليه السلام !!!
و قد كان من البديهي أن يوازي اكتسابنا للغة القرآن انغماس معتبر في الثقافة العربية أيضا (معرفة الكردي العراقي مثلا بشعراء العرب تفوق بكثير معرفته بشعراء بني جلدته، و استمتاعه بالموسيقى العربية يفوق في حالات كثيرة استمتاعه بألحان مطربي قومه). هذا ما يجمعنا و يجعل منا جسما واحدا رغم غياب التجانس و وحدة الرؤى بشأن العديد من القضايا و المواقف و الممارسات أحيانا. حتى الصومالي و الجيبوتي و القمري أصبحوا جزءا منا بفعل تعهدهم بخدمة اللغة العربية و تكريس تدريسها و نشرها ببلدانهم.
و بالنظر إلى هذه الحقيقة الساطعة فقد كان من المنتظر أن تعترف كل دول المعمور بوجود كتلتنا و بخصوصياتها التي تميزها عن باقي الكتل. ففي عيون الأوروبيين و الأمريكيين و الآسيويين ليس ثمة فرق بين الموريتاني و السعودي و الأردني مادام أن انتماءهم إلى العالم العربي لا غبار عليه (بالضبط كما أنه لا فرق يذكر بين التنزاني و الكونغولي و السنغالي مادام أن تصنيفهم الأفريقي لا يحتاج إلى دليل)، و لو لم يكن الأمر كذلك ما كانت هيئة الأمم المتحدة لتدرج اللغة العربية ضمن لغاتها الرسمية الخمس و ما كان الاتحاد الدولي لكرة القدم ليقرر مباركة هذا الحدث الرياضي و احتضانه بل و وسمه أيضا ب FIFA ARAB CUP .
و بأي مبرر نقبل ب “كوبا أمريكا” ـ حيث هناك إقصاء واضح للدول الأمريكية الناطقة بالإنجليزية ـ و الألعاب الفرنكوفونية و ألعاب الكومنولث و نرفض في المقابل الاعتراف بمشروعية بطولة رياضية تجمع منتخبات ما يوحد أفرادها أكبر بكثير مما يفرقهم ؟ ما “كأس العرب” في الحقيقة سوى فرصة إضافية لخلق أجواء من الفرحة و الفرجة و الإثارة في سياق إقليمي و دولي جد مضطرب سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و في زمن ما فتئت فيه طبول الحرب تدق هنا و هناك. لا داعي إذن لتحميل هذه التظاهرة ما لا تحتمله، و لنعلم جميعا أن الحديث عن العرق “الصافي” حديث متجاوز منذ أن أصبح الاختلاط سنة ثابتة بفعل ابتعاد الكثيرين عن مواطنهم الأصلية أو بفعل استقبالهم للأغراب و الاحتكاك بهم. لهذا السبب، مجنون من يعتقد بأ ن المشاركين في مختلف التظاهرات العربية الرياضية منها و الفنية و الأدبية و الفكرية و العلمية و السياسية و غيرها يخضعون لتحليل الحمض النووي قبل السماح لهم بولوج ملاعب المباريات أو قاعات الاجتماعات. المشاركون عرب بلسانهم بالدرجة الأولى، و الدليل على ذلك الغياب المطلق للمترجمين. حتى معتقداتهم الدينية لا تهم المنظمين.
و على الرغم من استمتاعي بأطوار المباريات المبرمجة و التي سمحت لي الظروف بمتابعتها فقد انتابتني نوبات من السهو ، إذ وجدتني بين الفينة و الأخرى غارقا في طرح مجموعة من التساؤلات على ضوء ما كان يجري أمامي و ما كان يتفوه به المحللون.
كيف أمكن للمنتخب الفلسطيني مثلا أن يتجاوز الدور التمهيدي و يبصم على حضور قوي إلى حدود مرحلة الربع بالنظر إلى ما تعرفه البلاد من مآسي إنسانية هزت ضمائر العالم بأسره ؟ أنا شبه متأكد بأنه ما كانت المنتخبات المشاركة لتمانع في إهداء لقب هذه الدورة للشعب الفلسطيني المكلوم من خلال أداء صوري لو كانت الأعراف الرياضية تسمح بذلك.
و كيف أفلحت الحكومة السورية الجديدة في تخصيص حيز بأجندة عملها لتحضير منتخب جيد التدريب و بمعنويات عالية و مهارات متميزة و كلنا نعلم بأن هذا القطر الشقيق مازال بصدد لملمة جراحه بعد حرب أهلية طويلة و مدمرة ؟ يبدو أن قدرة بعض الشعوب على التعافي السريع بعد النكبات كبيرة جدا.
و ماذا عن المنتخب السوداني ؟ هل جمع عناصره و أشرف على تدريبه الفريق أول عبد الفتاح البرهان أم أنه منتوج خالص لقوات الدعم السريع ؟ أنا شخصيا عاجز عن الفهم.
و ما هي حكاية الفريق الليبي الذي أقصي بالدور التمهيدي ؟ هل المشير خليفة حفتر هو من تولى الإنفاق عليه و على تنقلاته أم أنه حظي بعناية حكومة الوحدة الوطنية ؟ التساؤل نفسه يطفو إلى السطح بشأن مشاركته في المنافسات الأفريقية.
و من يا ترى احتضن المنتخب اليمني الذي منعه الحظ العاثر من بلوغ النهائيات ؟ الحكومة اليمنية المعترف بها عالميا أم عبد المالك الحوثي ؟ و كيف تمكنت الطائرة التي أقلته إلى خارج اليمن من تفادي نيران المتحاربين ؟
و لماذا اقتصرت مشاركة بعض الدول على منتخباتها الرديفة ؟ هل ثمة إكراهات حقيقية و مقنعة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون استخفافا بقيمة البطولة على الرغم من التحمس الشعبي الذي رافقها و الإمكانات المادية و اللوجستية و التقنية المعتبرة التي رصدت لها ؟
و ماذا عن التقارب الذي أبدته الجماهير المغربية و الجزائرية على مدرجات الملاعب القطرية ؟ هل هذا مؤشر على قرب المصالحة السياسية بين القطرين الشقيقين ؟ نتمنى ذلك.
و مهما يكن، و بعيدا عن مناقشة مشروعية إقامة هذه التظاهرة من عدمها ـ و هي مناقشة عقيمة على أية حال ـ و بغض النظر عن ظروف استعدادات المنتخبات المشاركة و تركيبتها لا يمكن للمتابع إلا أن يقر بنجاح دورة هذه السنة على كل الأصعدة. فقد كان التنظيم احترافيا، و كان الضبط الأمني محكما، و كانت التغطية الإعلامية شاملة و دقيقة، و كان الأداء الكروي على أعلى مستوى، و كان التنافس على أشده حتى أنه لم نلمس أي فرق على الإطلاق بين المنتخبات “الكبيرة” و المنتخبات “الصغيرة” و لا أدل على ذلك من الفارق البسيط الذي انتصر به المنتصرون في معظم المباريات. الأكثر من هذا و ذاك فقد شهدت الملاعب إقبالا جماهيريا منقطع النظير إذ استقبلت مدرجاتها أفواجا من عشاق كرة القدم فاق عددهم عتبة المليون متفرج، قسم كبير منهم وفد من خارج البلد المنظم ما أضفى على الحدث أجواء احتفالية رائعة.
لقد كان الحدث في مستوى التطلعات بكل تأكيد و بشهادة الجميع، و كل ما أتمناه هو أن يكف بعض المعلقين الرياضيين مستقبلا عن إزعاج آذاننا بكل ما من شأنه تبرير موقف المناوئين لهذه البطولة من قبيل التعصب المبالغ فيه للعروبة و كيل المديح الزائد للعرب و شيمهم و أخلاقهم و تاريخهم و سرد العنتريات التي لا تقدم و لا تؤخر و لا فائدة ترجى من إدراجها في الوصف الرياضي، فما نحن في نهاية التحليل سوى أمة ناطقة بالعربية في المقام الأول.
ملحوظة ختامية : لو كان الحدث عنصريا كما يعتقد الكثيرون ما كانت بعض المنتخبات لتشارك بلاعبين و مدربين لا تمت أصولهم للعالم العربي بصلة، و ما كان المنظمون للدورة ليستأجروا خدمات حكام و أطر غير عرب.
الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.
تعليق القارئ Chami لا علاقة له بمضمون مقال الأستاذ محمد كرم
في انتظار المعاينة؟؟؟!!!! دائما تستعملون هذه العبارة للالتفاف على الاراء المعقولة التي تتجنبوا نشرها. هذه هي الحقيقة مع كامل احترامي لكم، وهذا يضع مصداقيتكم تحت المجهر. سأكون سعيدا ان كتبتم جوابا مقنعا.