2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
فْلاَلُّو… “يهودي عاش بين المسلمين”
عبد الحميد البجوق
كان اللقاء صُدفةً… أو هكذا بدا في ظاهِره.
في صباح يوم ماطر من أيام فصل الشتاء، رياح الشرقي تَهُب على المدينة بقوة، يوسف يُرافق صديقا له في سيارته يتفقدان أحوال المدينة، كلاهما عاشِقين للمدينة وبرجها ومينائها الموؤود. اقتعد الإعلامي المعروف، ابن المدينة الذي عُرف بعشقه وهيامه لها المقعد المجاور للسائق، بدأ الحديث مع صديقه يسْتَقصِيَه عن أحداث وحكايات يتداولها سكان المدينة الأقدمون، يتذكر حكايات سمعها من والده، وأخرى من أرشيف الأوَّلين الذين غادروا إلى دار البقاء، يسترجعُ صُوَّر وجوهٍ من طفولته لا يتذكّر أسماء أصحابها . يُعرف عن يوسف أنه مهووس بتاريخ المدينة منذ أن كانت قرية صغيرة، لا بوصفها ماضيًا منتهيًا، بل ككائنٍ حيّ يتنفّس تحت الإسفلت والواجهات الزجاجية.
صديق يوسف في عقده الثامن، أحد رموز المدينة الذين عاشوا تحوّلها من قرية تُجاوِرُ البحر، إلى مدينة يظنّ بعضهم أنها لا تحتاج إلى الذاكرة. خاطب يوسف صديقه بنبرة تمزِج بين الجد والمزاح، وقال:
— “أنت آخر من رأى المدينة وهي تمشي على مهل.”
ابتسم الصديق، واستدار ينظر إلى يوسف وفي عينيه بريق غامض:
— “بل آخر من سمعها وهي قرية تتكلّم.”
بدأ الحديث عن الميناء القديم، عن الإسبان الذين مرّوا وتركوا أسماءهم على الحيطان، عن المسيحيين الذين صلّوا في صمت، وعن اليهود الذين عاشوا دون أن يرفعوا لافتة. كان يوسف يسأل بشغف من يخشى أن يفوته موعد الصلاة، وصديقه يُجيب بطمأنينة من يعرف أن الزمن ليس خطًّا مُستقيمًا.
سأل يوسف فجأة:
— “وهل تتذكّر فْلَالّو؟”
ساد صمتٌ كثيف، كأن الاسم لم يُنطق منذ زمن، أو كأن المكان نفسه حاول أن يستوعبه. رفع الصديق رأسه ببطء، وحدّق في الفراغ، ثم قال:
— “من أخبرك بهذا الاسم؟”
— “وجدته في الهامش… دائمًا في الهامش حيث تختبئ الحقيقة.” أجاب يوسف مُبتسما.
تَنفّس الصديق بعُمق:
— “فْلالّو… لو نَسِيَتْهُ المدينة، لن ينسها هو.”
ومن تلك اللحظة، تغيّر الحديث. لم يَعُد عن حجرٍ أو ميناء، بل عن رجلٍ كان يقف عند العتبة، لا يدخل تمامًا ولا يخرج. عن يهوديٍّ كان ينصت لتلاوة القرآن أكثر مما يُنصت بعضُ أهل الذِّكر الحكيم..عن قريةٍ لم تكن تسأل عن الدِّين حين يكون القلب حاضرًا.
قال الصديق:
— “كان بيننا تعايش انقرض اليوم. لم نكن نحتاج إلى شعارات.”
دوَّن يوسف الجملة في دفترٍ صغير، ثم رفع رأسه:
— “وهل اختفى فعلًا؟”
ابتسم الصديق، ابتسامة من يعرف أكثر مما يقول:
— “مِثل فلالّو لا يختفي يتحوّل.”
خارج النافذة، كانت السماء تُواصل وعيدها، الأمطار تهْطل بغزارة ورياح الشرقي تهب بقوة وجبروت كأنها انتبهت إلى أن اسمًا قديمًا عاد ليدقّ باب ذاكرتها. وفي تلك اللحظة، أدرك يوسف أن ما يبحث عنه ليس تاريخ مدينة، بل أثرُ رجلٍ… وقف يومًا عند العتبة، وعلّمها كيف تُصغي.
في الأربعينيات من القرن العشرين، حين كانت قرية مرتيل أو “مرتين” كما كان سكانها الأقدمون يسمونها، حين كانت أقلَّ ضجيجًا، وأكثر ميلاً إلى الإصغاء، حين كانت قرية ترقد على كتف تطوان مثل سرٍّ صغير لا تُحب المدينة أن تفشيه، حين كانت تتوسط سهلا ساحليا خصبا يتلون بالأخضر والأصفر كل ربيع ، حين كانت تحتضن ميناء ذاع صيته في البقاع، رائحة سمكٍ ويودٍ وقطران، وبشرٌ جاؤوا من أديان شتّى، لكنهم كانوا يتقاسمون الخبز والخوف والحب والضحك ذاته.
في تلك القرية، مدينة “مرتيل” اليوم عاش اليهودي فلالّو.
لم يكن أحد يعرف اسمه الحقيقي، ولا من أين جاء. كانوا يقولون: “ فلالّو اليهودي”، لا على سبيل التمييز، بل كما يُقال “علاّل النجّار” أو “ سي احمد الحدّاد”. كان قصير القامة، واسع الجبهة، يلبس قبعة داكنة حتى في القيظ، وعيناه فيهما لمعان طفل يعرف سرًّا ولا يريد البوح به.
كان يعمل في جمع كِراء البيوت؛ يطرق الأبواب باسم الملاّك التطوانيين الأغنياء، يُسجّل في دفتره الصغير، ولا يرفع صوته أبدًا. لكن الغريب أن الفقراء كانوا ينتظرونه أكثر من الأغنياء. إذا تأخر يومًا، خرجوا يسألون عنه، كأن القرية لا تستقيم بدونه.
كان فلالّو يعرف أسماء الأطفال، ويحفظ أمراض العجائز، ويطرق باب الأرملة قبل غيرها، لا ليطالبها بالكراء، بل ليسأل:
– “واش الحاجَّة بخير؟”
وفي زاوية المسجد الصغير، حيث كان الفقيه سي العياشي يُعلّم الصبية الحروف الأولى من القرآن، كان فلالّو يجلس أحيانًا قرب الباب. لا يدخل، ولا يبتعد. يجلس على حجرٍ أملس، يضع قبعته على ركبته، ويُصغي هدير تلاوة الأطفال للقرآن، كان صوت الصبيان ينساب مثل ماءٍ زُلال، وفلالّو يُغمض عينيه كأنه يستعيد شيئًا ضاع منه منذ زمن بعيد.
لم يكن أحد يعرف – في البداية – أن أجر الفقيه يدفعه فلالّو. كان المال يصل في كيسٍ صغير، بلا إسم. وحين انكشف الأمر، خاف بعضهم، وتردّد آخرون، لكن الفقيه سي العياشي قال جملته التي صارت مثلاً في القرية:
“القرآن فقط يحتاج إلى قلبٍ يُنصت له.”
ومنذ ذلك اليوم، صار الأطفال يلقّبون فلالّو بـ“عمّي فلالّو”، وصار هو يبتسم ابتسامة أوسع، كأنه كوفئ على سرٍّ أحسن إخفاءه.
المِخيال الشعبي لم يتركه وشأنه. أحدهم قال أنه ساحرٌ يملك مفتاحًا من زمن الرومان، يفتح به بابًا تحت البحر. وآخر من الصيادين حكى أنه كان يعرف أسماء الرياح، ويُغيّر اتجاهها إذا غضب. وقالت امرأة أنها في طريق عودتها من غابة ” رأس الطرف” تحمل حطبها رأته يتحدث مع القمر بلغةٍ لا تُشبه العبرية ولا العربية.
أما الرواية التي كان يُرددها شيخ الميناء، فتقول إن فلالّو هو من أنقذ القرية من الهلاك. ففي عامٍ قاسٍ تراجع فيه صيد السمك، واشتدّ الجفاف، ثم جاء فيضان البحر ليقضي على ما تبقّى من المحصول الزراعي في السهل، خلت السوق واشتدّ الجوع. عندها ظهر على نحوٍ مفاجئ تاجرُ حبوبٍ إسباني، عرض القمح بثمنٍ زهيد، وما لبث أن اختفى كما جاء. وكان الفقيه سي العياشي يعلّق قائلاً:
“لم يكن الرجل الاسباني تاجرًا عابرًا… كان وراءه سراًّ لا يعرفه إلا فلالّو الذي ظلّ يرافق التاجر إلى حين مغادرته الميناء بل كان من يجزم أن فلالّو من فاوض التاجر وأدى ثمن الفرق في ثمن القمح.”
كان لفلالّو بيتٌ صغير عند حافة البرج التاريخي. لا أحد دخله. كانوا يقولون إن داخله خرائط قديمة، ورسائل بلا عناوين، وصندوق خشب لا يُفتح. في إحدى الليالي، شوهد ضوءٌ غريب يتسرّب من نوافذه، ثم انطفأ، ولم يُرَ بعدها.
حصلت البلاد على استقلالها سنة 1956 ،تغيّرت الوجوه. بعض المسيحيين عادوا إلى بلدانهم، وبعض اليهود رحلوا في صمت. القرية بدأت تكبر، تفقد بُطئها، وتستعجل النسيان. وفي يومٍ ماطر استيقظت القرية على خبر اختفاء فلالّو، وتناسلت الروايات عن غيابه المُفاجئ..
انتظروه يومًا، يومين، أسبوعًا. طرقوا بابه، فلم يفتح. كسَّروا القفل، ووجدوا البيت فارغًا. لا خرائط، لا رسائل، لا صندوق. فقط دفترٌ صغير على الطاولة، صفحاته بيضاء، إلا صفحة واحدة كتب فيها بخطٍّ كوفي جميل:
“البيوت ليست من حجر… البيوت من الناس.”
اختلفت الروايات عن اختفائه. قال بعضهم إنه ركب البحر ليلًا، عائدًا إلى أرضٍ وعده بها أجداده. وقال آخرون أن المستعمرون الإسبان أخذوه لأنه كان يعرف أكثر مما يجب. وقال أحد الصيادين أنه رآه عند الفجر يمتطي قاربا نقله إلى باخرة ضخمة كانت تنتظره في عرض البحر قبالة شاطئ كابونكرو.
واصل الفقيه العياشي تعليم الأطفال في المسجد سنواتٍ بعدها، وكلما سُئل عن الأجر، قال مبتسمًا:
“وصلني.”
وكلما جلس الأطفال يرددون آياتهم، كان بعضهم يُقسم أنه يسمع وقع خطواتٍ خفيفة قرب الباب، وصوت قبعة تُوضَع على الأرض.
فلالّو لم يعد، لكنه لم يختفِ. صار حكاية، والحكاية صارت ذاكرة. وفي القرى التي تشبه البرج، لا يموت من أحبّ الناس دون أن يسألهم عن دينهم. مرّت سنوات، وكبرت القرية كما تكبر الحكايات ويتعب أصحابها، لكن اسم فلالّو ظلّ يُقال بصوتٍ منخفض، كأنه مزيج من الخوف والتوقير لذكرى تقاومُ النسيان .
في مساءٍ شتوي، كان المقهى المُجاور للبرج يعجّ بدخان الكيف وبحرارة الحكي. جلس سي العربي الصياد، وسي عبد الكريم الجزار، والحاج اللنجري، كلٌّ واحد منهم يتذكر فلالّو بطريقته.
قال سي العربي وهو يرتشفُ من كأس الشاي:
— “راه فلالّو مامشاش غير هكذا وخلاص … ضروري كاين شي سر داه معاه…”
ردّ الحاج اللنجري، وهو يمسح بكفه على لحيته التي غزاها الشيب:
— “فلالّو كان مرسول، والله كيختار معامن يرسل الحكمة والعِبرة ديالو، هذا هو السر لي مبغيناش نفهمو، والحكمة لي نسيناها .”
تنهّد سي عبدالكريم :
— “الله يرحمو كان كيسوّل عليّا أكثر من ولادي. نهار مرضت، جا وجاب معاه طبيب نصراني، وقال ليا: ما تخافش، الصحة ما عندها دين.”
ساد صمتٌ قليل قبل أن ينطق سي العربي، بنبرة من تذكّر فجأة:
— “واش عمركم شفتوه غضبان ؟”
هزّ الحاج رأسه:
— “غير مرّة وحدة.”
اقتربوا منه، كأنه سيُفشي سرًّا من صندوقٍ قديم.
— “كان داك النهار شي واحد سكران سبّ شي طفل يهودي جا مع عمّو من تطوان. فلالّو وقف قدّامو وقال ليه: ‘اللي يهين طفل يهين الله’. والله ما رفع صوتو، ولكن الرجل طاح فالأرض بحال شي جن ضْرْبو، سبحان الله.”
علّق السي العربي:
— “ربي كيعطي البَرَكة لمن يشاء ولو كان مجوسياً.”
في صباحٍ باكر، وقبل اختفائه بأيام، كان فلالّو جالسًا قرب حلقة الأطفال في المسجد. اقترب منه الطفل مصطفى، الذي صار بعد استرجاع المغرب لمدينة سيدي إفني معلّمًا، وقال له ببراءة:
— “عمّي فلالّو، علاش كتجي تسمع القرآن وانت ما كتصلّيش معانا؟”
ابتسم فلالّو، ومسح على رأسه:
— “كل واحد كيصلّي بطريقتو يا ولدي. وأنا… كنسمع باش نتعلّم الصبر.”
تدخّل الفقيه العياشي، بنبرة نصف مازحة:
— “ولكنك كتخلّصني أكثر من حقّي.”
ابتسم فلالّو وردّ على الفور:
آلفقيه العياشي— “زيادة على حفظ القرآن وكتابة الحروف. كتعلّمهم يْصْغِيو.”
سكت لحظة، ثم قال بصوتٍ خافت:
— “واللي يسمع ويصغي… عُمْرو ما يضيع.”
في آخر لقاءٍ له مع سي العربي، كانا واقفين عند حافة الميناء. البحر هادئ بشكلٍ مُريب.
قال سي العربي:
— “فلالّو، واش ناوي تمشي؟”
لم ينظر إليه، ظلّ يحدّق في الأفق:
— “الناس ما كيمشيوش آسي العربي، غير كيتبدّل المكان اللي كيسكنو فيه.”
— “ولكن القرية محتاجاك.”
ابتسم:
— “القرية خاصها تتعلّم توقف بلا عكّاز.”
ثم أخرج من جيبه مفتاحًا صدئًا، ناوله لسي العربي:
— “بلا باب، هاد المفتاح ماصالح نوالو، الباب قبل المفتاح أسي العربي”
ضحك سي العربي:
— “واش كتآمن بالخرافات دابا؟”
ردّ فلالّو بهدوء:
— “الخرافة هي اللي كتبقى ملي كتموت الحقيقة.”
وفي الليلة التي اختفى فيها، قالوا أن البحر كان هادئًا أكثر من اللازم. لا موج، لا ريح. فقط صوت أطفال، من بعيد، يردّدون آياتٍ حفظوها في المسجد عند الفقيه العياشي.
قالت الحاجة رقية ذات يوم تحكي لزوجها الفقيه العياشي عن حلمها:
— “شفت فلالّو لابس أبيض.”
أجابها الفقيه:
— “فال خير إنشاء الله.”
أما سي العربي، فظلّ يقسم إلى آخر عمره:
— “راه ما مشى لاين… راه ولّى بحر.”
وهكذا، لم يعد فلالّو شخصًا، بل صار صوتًا في الحكي، ووجهًا يتبدّل حسب من يتذكّره، ومن يتذكر قولته التي كان يرددها بصوت خافت لكل من سأله عن عائلته وبيته:
“البيوت ليست من حجر… البيوت من الناس…والناس حكايات”
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاجبها.
حكي جميل وبعمق إنساني أصيل. كم من فلالو هو اليوم موجود بيننا من بني جلدتنا وملتنا ! نحن في انتظار فلالو!!