لماذا وإلى أين ؟

بين الفنان صالح الباشا والروائية الانجليزية اميلي برونتي من “إحاحان” إلى “مرتفعات وذرينغ”

في عمق التجربة الإنسانية، يكمن نوع من الحب يتجاوز المنطق والأعراف، حبٌ مطلق وشامل إلى درجة أنه يصبح هوية وكينونة، وفي استحالته يجد خلوده. هذا هو الحب الذي عاشه الفنان الأمازيغي الراحل صالح الباشا، والذي وجد صداه الأدبي الأكثر قسوة وجمالاً في رائعة إميلي برونتي “مرتفعات وذرينغ”. إنها صرخة الروح الواحدة التي يتردد صداها عبر الثقافات والجغرافيا، من شكوى فنان قضى حياته وفياً لحب لم يكتمل، إلى عاصفة المشاعر المدمرة بين كاثرين وهيثكليف.

عندما يتحدث صالح الباشا عن حبه المستحيل، فإنه لا يستخدم لغة العشاق العادية، بل يغوص في جوهر الوجود والمصير. جملته “لا يمكنني أن أتحكم في الأجل لنموت معاً وأُدفن قربه” ليست مجرد أمنية رومانسية، بل هي إقرار بالعجز أمام أقسى حقائق الحياة: حقيقة أن الأرواح المتآلفة قد لا يكتب لها القدر جسداً واحداً أو قبراً متجاوراً. هنا، يتجاوز الحب رغبة الوصال في الحياة ليصبح شوقاً للاتحاد الأبدي في الموت. ويضيف الباشا بعداً ثقافياً عميقاً حين يوبخ كبده، ففي الموروث الأمازيغي، الكبد هو “أتون العشق” ومركز الاحتراق والألم. أن يخاصم كبده يعني أنه يخاطب مصدر عذابه مباشرة، ذلك الجزء منه الذي يشتعل بنار لا تنطفئ، وهو ما يفسر كيف يمكن لشعور واحد أن يستهلك حياة إنسان بأكملها.

وهذه الصرخة المنبعثة من جبال الأمازيغ تجد صداها المذهل عبر مستنقعات إنجلترا الضبابية في رواية “مرتفعات وذرينغ”. حب كاثرين إيرنشو وهيثكليف ليس قصة غرامية، بل هو اندماج وجودي عنيف. إنه حب لا يقوم على السعادة، بل على الضرورة المطلقة، تماماً كما وصفت كاثرين حبها لنيللي دين قائلة: “حبي للينتون يشبه أوراق الشجر في الغابة، وأنا أدرك تماماً أن الزمن سيغيره كما يغير الشتاء الأشجار. أما حبي لهيثكليف فهو يشبه الصخور الأبدية تحتي، مصدر ضئيل للمتعة الظاهرة، ولكنه ضروري. نيللي، أنا هيثكليف! إنه دائماً، دائماً في عقلي، ليس كمتعة، تماماً كما أنني لست دائماً متعة لنفسي، بل ككياني الخاص.” في هذا الاعتراف، تلغي كاثرين المسافة بين الذات والآخر؛ هيثكليف ليس حبيبها، بل هو ذاتها، صخرتها الأبدية التي يقوم عليها وجودها. هذا هو بالضبط الشعور الذي يجعل من الحب احتراقاً للكبد، لأنه يصبح جزءاً لا يتجزأ من الكيان، وأي انفصال عنه هو تمزيق للروح.

إن أمنية صالح الباشا الحزينة بالاتحاد في الموت تتحول في عالم برونتي إلى حقيقة مأساوية وهدف أسمى. فبعد موت كاثرين، لم يبحث هيثكليف عن حب جديد أو حياة أخرى، بل كرس بقية عمره لتحقيق هذا الاتحاد المستحيل. صراخه بعد موتها يجسد هذا الألم الوجودي: “كوني معي دائماً، اتخذي أي شكل، ادفعيني للجنون! فقط لا تتركيني في هذه الهاوية حيث لا أستطيع أن أجدك! يا إلهي! إنه أمر لا يوصف! لا أستطيع أن أعيش بدون حياتي! لا أستطيع أن أعيش بدون روحي!”. هنا، لم تعد كاثرين مجرد حبيبة، بل هي “حياته” و”روحه”. وبفقدانها، أصبح هو الآخر ميتاً يمشي على الأرض، تماماً كما اختار الباشا عزوبة تشبه الموت العاطفي.

وفي نهاية المطاف، يحقق هيثكليف أمنية الباشا بطريقته العنيفة، حيث يرتب لكي يُدفن إلى جوار كاثرين، مع إزالة جوانب نعشيهما المجاورة لبعضها، حتى يختلط غبارهما وتتحد أجسادهما في التراب، محققاً في الموت ذلك الاندماج الجسدي الذي حرمتهما منه الحياة.

وهكذا، سواء عبر كلمات فنان أمازيغي هادئة وحزينة، أو عبر العواصف العاتية في رواية إنجليزية، نرى نفس الحقيقة الأبدية: هناك حب أعظم من الحياة، حب لا يقاس بالسعادة والوصال، بل بعمق الألم وقوة التحمل. إنه حب يجعل الكبد يحترق، ويدفع الروح لتطارد طيفها المفقود عبر الزمن، مؤكداً أن بعض الأرواح خُلقت لتكون واحدة، وإن كان اتحادها النهائي لن يتم إلا في صمت القبر وبرودة التراب.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

2 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
الصياد
المعلق(ة)
8 أغسطس 2025 01:37

تعقيب مختصر على تعليق ١

باختصار، النقد محق في تحذيره من المقارنات السطحية، لكنه يقع في فخ “النقاء المنهجي” الذي يقدس الاختلاف لدرجة تحريم البحث عن التشابه، ويعامل أي محاولة للحوار بين النصوص كفعل عنف. إن تكريم الأدب لا يكمن فقط في حفر خنادق عميقة حول كل نص، بل أيضاً في بناء جسور ذكية ومحترمة بينها، مع الوعي الكامل بمخاطر هذه العملية.

عيسى إيمال
المعلق(ة)
7 أغسطس 2025 08:58

هذا النوع من المقالات، رغم سحره البلاغي، يمارس عنفا تأويليا مضاعفا: أولا بحق تجربة صالح الباشا التي يتم اختزالها وتسطيحها من أجل تمرير استعارات جاهزة، وثانيا بحق “مرتفعات وذرينغ” التي تعامل كأيقونة عاطفية يمكن إسقاطها على أي وجع عاطفي محلي.
الأدب لا يكرم بالمقارنات المفتعلة، بل بالتفكيك الجاد، والحفر النقدي المتأني، والاعتراف بخصوصية التجربة، لا بتذويبها في استعارات الآخر.
أش جاب الطز للحمد لله…بالعربية تاعرابت

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x