لماذا وإلى أين ؟

 دْقَّة تَابْعَة دْقَّة.. شْكُون يِحْدْ البَأْسْ

“باروخ سبينوزا” هـو فيلسوف هولندي عاش في القرن الـ17، وهو تلميذ غير مباشر للفيلسوف المغربي “ابن رشد”، يــرى في الفصل الأخير من كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” بأن الغاية من قيام الدولة هــي ضمان وحماية حرية المواطنين، وعلى الخصوص حرية التّفكير والتّعبير، التي يُؤكد على ضرورتهما من أجل التطور، وفي الآن ذاته على استحالة منعهما؛ فالإنسان لابد له أن يُفكر ويعبر عن رأيه.

المنظر السياسي ذاته، يُبرز أن من حق السلطة العليا اعتبار من لا يشاركونها في رأيها في كل شيء أعداء. ويستدرك “ولكننا لا نُناقش الآن حقها، بل نبحث فيما يحقق مصلحتها. إننا نسلّم بأنها تستطيع شرعاً الحكم بأعنف الطرق وإصدار أحكام الإعدام على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكل مجموعون على أن هذا الأسلوب في الحكم يعارض العقل السليم.. بل إنه يعرِّض الدولة للخطر”.

إذا كان هذا الموقف نابع من الفكر السياسي للقرن الـ17، فهل يمكن أن نكون نحن في الـ21 رجعيين بالمقارنة معه؟

حرية التفكير والتعبير حق طبيعي مُلازم للإنسان، ولا يمكن منعه منه، ولو كانت حياته مقابلاً لذلك، إن لم يختَر الكذب أو النفاف والخداع. ولمّا كان الأمر هكذا، فإن هذا “الحق” مكفول بمقتضى المواثيق الدولية، ومُحترم حدّ التقديس في الدول الدّيمقراطية.

في المغرب، كان يُمارس رغم كل ما كان يحدث فيما وُصف بـ”سنوات الجمر والرصاص”. وطبعاً، يمكن القول أنه أصبح مسألة عادية، بعد الإنفراج السياسي والحقوقي بالبلاد، بعد الرّبيع الديمقراطي بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، الـذي لم يُستنى منه المغرب، حسب الظّاهر للمتتبعين للشأن العام، وبعد خطاب الملك في الـ9 من مارس 2011؛ حيث بدأ الناس يُعبّرون بكل حرية وينتقدون الأوضاع، مُحاولة منهم في تقويمها إلى الأحسن في إطار من السّلم والإستقرار.

نصوص الباب الثاني المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية، من الدستور المغربي الصادر بعد الحِراك “الفبرايري” في الـ29 من يوليوز 2011، تضمن، أيضاً، الحق في التعبير الحر بكل أشكاله.

لكــن، ما يمكن ملاحظته هو رغبة السلطة في العودة بنا إلى ما قبل 2011، فما الذي جرى أو تغيّر؟ ومتى؟ وما الأسباب؟ وإلى متى ستستمر “السلطوية” في زحفها على المكتسبات، وفي الزيادة من حدّة ما يصفه المتتبعون بـ”القمع”؟ وإلى ماذا سيؤدي ذلك إن استمر؟

أسئلة كثيرة تُطرح، على هامش الرِّدة الحقوقية التي يعرفها المغرب في السنوات الأخيرة، والمتمثلة في التّضييق على حرية التعبير أساساً بالاعتقالات والمتابعات القضائية، آخرها حالة الصحفي “عمر الراضي” الذي يشتغل على جنس التحقيق، وكشف على العديد من الاختلالات في البلاد، وبدل تكريمه، تشجعاً له، وعبره تشجيعاً للصحافة المجتهدة، اعتُقل بسبب تعبيره عن رأيه في تدوينة تزامنت مع الأحكام الإستئنافية الصادرة في حق معتقلي حِراك الريف، والتي اعتُبرت “ظالمة وجائرة”.

إنه يتابع بسبب رأي، صادر مُنذ حوالي 9 شهور، في قضية رأي عام أثارت حزن وغضب كل المواطنين وبل حتى كل الناس الذين يملكون قلباً وحساً إنسانياً.. في قضية اعتبرها الفاعلون السياسيون والحقوقيون، تعبير صارخ عن الرّدة، ومحاولة للإلتفاف على المكتسبات التي اكتُسبت بعد الدستور الجديد.

في الـ28 أكتوبر 2016 قُتل الشاب “محسن فكري” طحناً، بعدما وقف بجسده دفاعاً عن رزقه، وخرج الآلاف من شباب الحسيمة العاطلون عن العمل، نظراً لإنعدام فرص الشغل، للاحتجاج على ما وقع لـ”محسن”، وللمطالبة بتنمية المنطقة اقتصادياً وبالتالي اجتماعياً، وباحترام الخصوصيات الثقافية للمنطقة.

الاحتجاجات استمرت حوالي 7 أشهر، بشكل سلمي حضاري، كما كان “ناصر الزفزافي”، يحب أن يسميها، لكن ولما كان من المنتظر أن تحقق السلطة مطالبهم، أو على الأقل أن تشرح المعيقات إن كانت لا تستطيع، تم اعتقالهم بتهم مُختلفة (جنحية)، قبل أن تتحوّل بقدرة قادر، فيما بعد إلى تهم التأمر ضد الدولة (جنائية). ومنذ ذلك، إلى الآن، بدأت الاعتقالات والمتابعات، بذات الطريقة.

أبرزها اعتقال الصحفي “حميد المهداوي”، بتهمة، سُميت سخريةً بـ”الصياح في الشارع”، قبل أن يُتابع بتهمة أخرى، وُصفت بالخرافية، التي لا يقبلها العقل، وكُيفت بنص جنائي يتحدث عن العلم بـ”الخطط والأفعال”، وليس عن “أقوال” من مكالمة هاتفية مجهولة متناقضة.

فمنذ ذلك الحين (2017)، والضّربات تقع على ظهر الأحرار، وأسباب ذلك، حسب ما يراه بعض المتتبعون، هــو الخوف من تشجيع المواطنين على التعبير الحر، وفضح الاختلالات، والمطالبة بمحاسبة المتورطين، وبالتالي فالحل هــو: متابعة واعتقال الأحرار، وعبرهم تخويف الآخرين.

عموماً، ولمّا كانت الكتابة شكلا احتجاجياً، فإن هذا التعبير الدارج: “دقة تابعة دقة.. شكون يحد البأس”، يبقى هــو التعبير الدقيق للاحتجاج على الوضع، لأن، واستحضاراً لاسبينوزا، مرة أخرى: “أية محاولة لارغام أناس ذوي آراء مختلفة، وبل متعارضة، على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب”،(رسالة في اللاهوت والسياسة، ص:436)

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
29 ديسمبر 2019 10:47

ما قاله سيبينوزا صحيح وواقعي ولكن تكييفك للاحدات والزاوية التي تنظر منها للوقائع غير موضوعية لانها من باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا

خالد
المعلق(ة)
29 ديسمبر 2019 00:05

في الصميم !

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x