لماذا وإلى أين ؟

الحراك الجزائري… في مرآة التاريخ المعاصر

نور الدين ثنيو*

كما هو معروف ومتداول في أوساط المؤرخين، أن كل تاريخ هو تاريخ معاصر. فما يعتقد أنه تاريخ ماضي كان في حينه تاريخا معاصرا. أما التاريخ المعاصر الذي نعيشه اليوم في العصر الفائق، فهو معاصر بمعنيين، بمعنى أنه معاصر لنا في لحظاته الزمنية، كما أن التاريخ الماضي الذي كان معاصرا لزمانه، يمكننا أن نستعيده ولو بنوع من الاستعادة عبر أدوات ومقاربات، ومناهج البحث، والمعالجة والتصور والتَّمَثّل، من أجل أن نعيد له قيمته المتبقية منه، أو ما لم يكتشف منه. ومن هنا خاصية التاريخ المعاصر الراهن، الذي لا يريد أن يفسح تاريخه إلى تاريخ لاحق عليه، وكأن التاريخ توقف عند هذه اللحظة الأبدية، التي لا تسمح إلا للفاعلين الحقيقيين صِناعة التاريخ، ومن ثم كتابته ليندرج في التاريخ الكبير المعبِّر عن الراهن الإنساني كله، الذي يجب أن يتجاوز ويتخطى السَّرديات الكبرى التي صنعها الغرب منذ قرون.

فاللحظة الأبدية، التي توقف عندها التاريخ المعاصر لا يتفاعل معها إلا من أوتوا الدراية والجدارة والتأهيل المطلوب، من أجل الانصهار الحي والحيوي القادر على صناعة الحدث، ليطلق عليه الحدث التاريخي، أي الواقعة التي جاءت من صلب التاريخ، ووجدت المفردة التي تميزها كحدث ليس عن الحادثة فحسب، بل أيضا عن لحظة الحدث نفسه، أي بتعبير آخر يفيد ذات المعنى، هناك اقتران تام بين الحدث ووصفه المميز.. مثل الثورات التي شهدها العالم كله، سواء أكانت سياسية أوعلمية أواقتصادية، وعلى ما نحضر ونشاهد أيضا في عالمنا العربي والإسلامي مثل «الربيع العربي».. وكان آخره هو لحظة الحراك الجزائري الذي لا يريد أن يتوقف مهما كانت قوى الظلم والقهر والصد، التي تحاول أن توقفه، لأن الحراك، وفق مفهوم التاريخ المعاصر، هو لحظة أبدية لا تتوقف، بل تتحرك وهي ساكنة أيضا، لا يدرك ذلك إلا من يحسن التحليل والفهم، وأوتي من الوعي الكثير.

تاريخنا المعاصر هو تاريخ مُدغم في اللحظة العالمية، التي لا تحدُّه الاعتبارات الوطنية، ولا القوى المناهضة لحريات وحقوق الشعوب والجماهير الطامحة إلى الخروج عن الأقاليم والأوطان، والتَّنقل إلى مواطن وأمصار أفضل وأحسن وأرْيح. فالمواطنون في بقاع العالم هم مواطنون بِرَسْم أن يُرَشَّحوا لكي يكونوا مواطنين في أي بلد من بلاد الدنيا. وعليه، فهذا الإمكان من الحق الإنساني هو مجال لنضال جديد في المجتمعات، التي لا تزال تشهد أنظمة تسلطية واستبدادية، أرادت أن تحتكر لنفسها وبشكل حصري إمكانية التمتع بحرية التنقل، وإعادة بناء حياة جديدة في مواقع ومواطن خارج الوطن، على ما نلحظ ونعاين في الوضع الجزائري، الذي سيطر عليه العسكر، كحكم مفارق لروح ومعنى التاريخ المعاصر.

الحراك الجزائري، هو مرآة التاريخ المعاصر، الذي تريد السلطة الحاكمة أن تحجبه عن نظر ووعي الجماهير، في الداخل وفي الخارج. ففي الحراك نعرف أكثر، ظاهرة مآل ومصير المتنفذين وناهبي المال العام ولصوص السياسة وعرَّابها ومُرابِيها، حيث صار بإمكانهم أن ينهوا حياتهم خارج المحاسبة، وفي بلاد «برَّة». فالتحلي بقدر من الوعي العالي هو الذي يبصرنا بما يَرِد في خطاب الحراك ونعرف مفرداته ومعانيه العفوية، غير تلك التي تحاول أن تشدنا إليه أجهزة الإعلام السلطة الباطشة. فالحراك الجزائري هو ديمومة حيوية من فعل الجماهير، في الساحات والميادين والفضاءات السبرانية، التي تصنع الحدث المعاصر في لحظته وبمدلوله المناسب، أي الحراك بالاسم والفعل. وعلى خلاف «الحراك المبارك» الذي تبنته السلطة القابضة على الحكم، زورا وبهتانا، لا يَرِد ذكره لا في الخطاب الرسمي ولا الإشارة إليه في أجهزة الإعلام والتبليغ التابعة للسلطة. ومن هنا، مكمن الفرق بين من يصنع الحدث مع اسمه مثل الجماهير في حراكها الدائم، ديمومة اللحظة الأبدية، و»حركة» خطف الحراك بلا مضمون ولا اسم على ما فعلت الثلة القابضة على الحكم. فالفرق هنا هو فرق من يصنع التاريخ ويكتبه، ومن يروم، يائسا وخائبا، أن يعطله ويشلّ التاريخ المعاصر. وهذا مستحيل استحالة مطلقة.. لأنه لم يعد بمقدور السلطة الاستعمارية، ولا ما بعد الاستعمارية أن توقف التاريخ المعاصر، عندما يعني تاريخ العالم كله، لما ينطوي عليه من وقائع لا تجيز الشرعية المناسبة إلا لمن لهم القدرة على حفظ الحدث الذي تصنعه وتضفي عليه اسمه الحقيقي أيضا. وبهذا المعنى، فإن التاريخ المعاصر يمثل تحديا للعرب، خاصة أنظمتهم السلطوية، التي لا تزال تعاند وتصر على عدم تبصرها بحقائق الدنيا الجديدة، التي تصنعها سيرورة الزمن المعاصر. فما يحفظه هذا التاريخ العالمي الجديد هو الحدث الذي ينصهر في لحظته الأبدية على ما فعلت الثورات والحركات الوطنية والإصلاحية، وعلى ما تصنع أيضا الجماهير في حَرَاكاتها (جمع حراك) الرامية إلى تغيير أنظمة حكم مفلسة وقاهرة، لم تعد قادرة على مواكبة الزمن الراهن، في كل استحقاقاته ومقتضياته. فحكم قيادات الأركان والدوائر الأمنية، ليست من صلب الزمن المعاصر، بل مفارقة له تماما ومن ثم مقتل النظام ذاته.

التاريخ المعاصر هو مسار زمني وإيقاع تكنولوجي لا تقوى عليه أنظمة الاستبداد والتسلط، لأنه التاريخ الذي توجد فيه، في لحظة واحدة، كل النماذج والأصناف البشرية على تنوعها وأصولها وثقافاتها وديانتها. فاللحظة الراهنة، على ما نشهد في هذا العالم المذهل والعجيب، هي محطة التاريخ الكبرى، التي لا تسمح إلا بالكتابة الرصينة والحقيقية للتاريخ، أي التاريخ الذي يأتي من صلب اللحظة الأبدية على ما تصنعه وتحققه الشخصيات العالمية. فالمكانة اليوم هي للأبطال والمبدعين والحركات الجماهيرية، والسلوكيات الحميدة، والأخلاق العالية، والنموذج الميسر للاقتفاء والعيش على منواله، على ما نعرف ونشاهد في عالم الرياضة، أو بالأحرى عوالمها القوية والحكيمة. إن لحظة التراكم العالمي لما هو أفضل على الإنسانية جمعاء، هي التي ستساعد على نبذ أنظمة القهر والطغيان والظلم في العالم العربي وغيره من بقاع العالم، التي لا تزال تعاني التخلف أو التخلف الفائق، أي ذلك التخلف الذي يكلف الأموال الطائلة بإعادة إنتاجه وسركلته كأفضل سبيل إلى الإبقاء على الحكم الفاسد و»الظلم القانوني» والجهل الممأسس، وعليه، أو هكذا يجب أن نفكر في قضايا المعاصرة، ليس كما تعودنا زمن الدولة الغائبة، يجب أن نستحضر دائما اللحظة المعاصرة في بعدها الجغرافي، التي تعني العالم كله كوحدة تستوعب كل الأشخاص الذين يتحلون بميزة أو صفة المواطنة، وفي بعدها الزمني التي تشملنا بلحظتها المكثفة التي تؤول دائما إلى ردم الحواجز وتخطي المتاريس وعبور الحدود.. لأننا صرنا على وعي بأننا نتمتع بشرعية منحتها لنا الهيئات الأممية، والمؤسسات الدولية عبر اعترافها بنا كمواطنين في الدول، وليس مجرد رعايا وأهالي أو عوام «بدونيين».
كاتب وأكاديمي جزائري

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x