لماذا وإلى أين ؟

هــذا تعـلــــيم طبـقي !

أواسط السبعينات من القرن الماضي، التحقت،كغيري من أبناء حي الأهالي،بإحدى المدارس الابتدائية العمومية لأبدأ مشوار  الدراسة والتعلم.

حينها كانت المدرسة، بالنسبة لكثير من التلاميذ، أقرب إلى مركز اعتقال منها إلى مكان للتربية، فأغلب المعلمين، غفر الله لهم، كانوا غلاظ القلوب وأولي بأس شديد، لا يعرفون من وسائل التأديب إلا العصا المسمومة يسومون بها تلامذتهم سوء العذاب و بئس العقاب، بل حتى المعلمات، غفر الله لهن، لم يكن يحملن من صفات الأنوثة، في أحسن الأحوال، إلا المظهر، فمعظمهن يحملن في حقائبهن، مع مساحيق الزينة، أنواعا من أدوات التعذيب كأسلاك النحاس و أنابيب المطاط وما شابهها.

و نحن داخل أقسامنا، غالبا ما كان يتناهى إلى مسامعنا عويل التلاميذ الصغار من فصل آخر وهم ينوءون تحت ضربات “المعلم”، فيفسد ذلك متعة الاستمتاع بقصة “مريم البليدة” أو حكاية “أحمد و العفريت”، حتى تكاد صورة المعلم أمامنا تلبسها صورة العفريت، فيلتبس علينا الأمر، ويختلط في أذهاننا الواقع بالخـيال.

أغلب هؤلاء المعلمين، عافاهم الله ورحم من انتقل منهم إلى دار البقاء، كانوا يتحلون بخصال العدل والقسطاس، فالمحاباة لديهم ممنوعة، والمجاملة في مبادئهم  محرمة، لأن عصيهم كانت تنال من رأس الفقير كما تنال من رأس الغني، وهذا كان ينسينا وجبة الضرب الدسمة التي كنا نفطر بها صبيحة كل يوم، إذ كنا نشعر ببصيص من المساواة، على الأقل تحت سلطة المعلمين، فلم يكن لأبناء الأثرياء من مفر، سيما البلداء منهم، إذ لم تكن المدارس “الخاصة” قد فتحت أبوابها بعد .

بعد أن فتح الله علينا بنعمة الإفلات من ويلات وشرور “الشـهادة”، صعدنا، ولله الحمد، إلى ما كان معلوما عند الناس بـ “الأولى ثانوي”، آملين أن يمن الله علينا ب “البروفي” بأقل الخسائر، لكننا وجدنا عالما آخر، شبيها بما تحدث عنه الفقيه مفضل أفيلال التطاوني”عالم قـد “جمـع بين أصناف وأجناس من أطراف، واحتوى على أوباش و أكباش، وهم بين قائم وقاعد وماش، وبعضهم يُصــغي للمدّاحين ويزدحمُ على الشطاحين إلى غير ذلك مما هو معلوم، كذوي الرُّقيّــة والسِّحر والكيِّ على بوزلّـــوم “.

فأول ما رأيناه في “الإعدادي” كان جموعا غفيرة من التلاميذ قد تحلقوا بساحة المدرسة حول تلميذ خبير، وكان التلميذ يصيح بأعلى صوته، ويلقي كلاما يستعصي فهمه على عقولنا، وبين المـقطع والآخر من كلامه، كان يصيح المتحلقون حوله بصـوت قـوي: “هذا تعليم طبقي ولاد الشعب فالزناقي”، و”هذا تعليم طبقي شي مطرود شي باقي”.

بعد مدة قصيرة، علمنا أن هؤلاء إنما هم في واقع الأمر “رفـاقٌ” يناضلون ضد إقرار “بنود الإصلاح” ويكافحون من أجل إقـامة تعليم ديموقراطي و شعبي، وذلك حتى لا يبقى أولاد الشعب في”الزنــــاقي”.

الآن، بعد مرور عقود على هذه الوقائع، ها هي المدارس والمعاهد الخصوصية قد غزت المدن، وصار لأبناء الأغنياء مكان مدفوع الأجر، يتلقون فيه دروسهم بطمأنينة وراحة بال، و تقلهم السيارات من عتبات بيوتهم إلى كراسيهم الوثيرة، بعيدا عن شغب الغوغاء وشقاوة الدهماء، وهاهم أبناء الفقراء، أمسهم كغدهم، ليلهم كنهارهم، وصيفهم كشتائهم، ما زالوا  يتزاحمون على “كراسي مدارس الدولة” قبل أن تقذف بهم إلى غياهب الشوارع، فليس لهم من يدفع ثمن الدروس “الخصوصية”، و فيهم من يعبر النهر سابحا، ومنهم من يقطع الجبال حافيا، و منهم الجائع ومنهم العطشان، منهم شبهُ المكسي ومنهم من في شبه العري، منهم أهل الحواضر ومنهم أهل المداشر، منهم من يوقد الشمعة، و منهم من يستنير بالفانوس، منهم من يستحم في الوادي ومنهم من يغتسل في البِرْكة، منهم من يبل ريقه بالماء و منهم من يفطر على الخبز الحافي، منهم من يصل المدرسة ومنهم من لا يقدر‍ !

أليس الأولى بنا أن نرفع مرة ثانية، بصوت أعلى وأقوى من أي وقت مضى، شعارنا المتجدد: هذا تعليم طبقي، و ولاد الشعب فالزناقي ؟

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x