2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
يسر جريدة “آشكاين” الإلكترونية أن تضع بين يدي قرائها الأعزاء سلسلة تاريخية تتقفى أثر العائلات والأسر الصحراوية التي كان لها أثر بليغ في الصحراء المغربية، وذاع اسمها نظير ما بذلته في مجالات مختلفة من الحياة من خلال ركن “عائلات الصحراء”.
سنتطرق في حلقة اليوم إلى عائلة أهل الشيخ ماء العينين، كأحد أبرز الزعامات العلمية والدينية بالصحراء، والذي عاصر خمس ملوك مغاربة عرفه عنه التصوف والعلم وزعامته في المقاومة ضد المستعمر واحتضان زاويته للقاءات تنسيقية بين القبائل الصحراوية والمخزن آنذاك من أجل طرد المستعمر الأوروبي من الصحراء والجنوب عموما.
النسب
حسب ما توارت حول سيرة الرجل، في مصادر تاريخية متفرقة ومتطابقة، فهو “سيدي المصطفى الملقب بالشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل بن محمد لأمين الملقب بـ”مامين” بن طالب خيار بن طالب محمد بن الجيه المختار بن الحبيب، بن علي بن سيدي محمد بن سيدي يحى بن علي بن محمد شمس الدين بن يحى الكبير الملقب “قلقم” بن سيدي محمد بن سيدي عثمان بن مولاي أبي بكر بن سيدي يحى بن مولاي عبد الرحمان بن مولاي أران بن مولاي أتلان بن سيدي أجملان بن إبراهيم بن مولاي مسعود بن مولاي عيسى بن مولاي عثمان بن مولاي إسماعيل بن مولاي عبد الوهاب بن مولاي يوسف بن مولاي عمر بن يحي بن عبدالله بن أحمد بن يحى بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي كرم الله وجه من فاطمة الزهراء عليها السلام.”، وهو النسب الثابت في كتاب ” الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الإستعمار الأوروبي”، الطالب أخيار بن الشيخ مامينا الطبعة الثانية. مطبعة المعارف الجديد الرباط2011. ج1، ص:19.
وجاء في المصدر ذاته أن “المؤرخ محمد ظريف، يقول إن بعض رواد الحركة الاستعمارية حاول الطعن في نسبة الشيخ ماء العينين والتشكيك فيه وذلك لما لقوه من مقاومة شرسة من أتباعه في بداية التوغل الاستعماري في بلاد شنقيط لكنهم لا يستندون في أطروحتهم التشكيكية إلى أدلة ثابت ووثائق قطعية، إذ أن من الذين شككوا في هذا النسب الشريف بول مارتي في مقالة له حول “الفاضلية بمجلة العالم الإسلامي” سنتي 1915-1916″.
حياته
قال الباحث في التاريخ، الحسين حديدي، إن “الشيخ ماء العينين ينحدر من أسرة علمية عريقة توارثت العلم كابرا عن كابر، وشاع العلم في أفرادها ردحا من الزمن ولا زال أحفادها على نهج الأجداد في الحفاظ على هذه المزية”.
وأضاف حديدي، متحدثا لـ”آشكاين”، أن “سيرة هذا العالم فقد تناولتها عدد من الدراسات العربية والأجنبية، وكتابات أبنائه ومريديه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر نذكر: كتاب “قرة العينين في كرامات شيخنا الشيخ ما العينين”، لنجله الشيخ مربيه ربه، وكتاب ” سحر البيان في مناقب شيخنا الشيخ ما العينين الحسان”، فضلا عن كتاب “النفحة الأحمدية” لتلميذه أحمد بن الشمس، وكتاب مجمع البحرين في مناقب الشيخ ماء العينين” لتلميذه محمد العاقب بن ما يابى الجكني. من مواليد 1246هـجرية الموافق لـ 1831 ميلادية بمنطقة الحوض”.
تعليمه
وأردف أن “الشيخ ماء العينين تلقى مختلف علومه ومعارفه في محضرة والده الشيخ محمد فاضل بن مامين، بتوجيه من والدته منينة منت المعلوم، حيث بدأ مشواره العلمي بحفظ القرآن الكريم برواية ورش، وتفرغ بعد ذلك لقراءة مختلف العلوم الشرعية حتى أتقن دراستها، ويحكى أنه لم يطلب العلم عند شيخ من المشايخ، وإنما اكتفى بما حصَّله في محضرة والده من علوم، فتصدر للتدريس بها لما اشتد عوده”.
رحلات حجية ومكانة علمية
وتابع أن “الشيخ ماء العينين قام بعد ذلك بعدة رحلات حجية لأداء مناسك الحج في البيت الحرام، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومسجده النبوي بالمدينة المنورة، وأول هذه الرحلات الحجية مؤرخة بتاريخ 1274هجرية الموافق لـ 1858 ميلادية”.
وأكد المتحدث أن “الشيخ ماء العينين تمكن خلال هذه الرحلات من الوقوف على المزارات الدينية بالحجاز، والاحتكاك بعلمائها وطلبتها، ورصد مظاهر ومستوى الحركة الفكرية في المشرق لاسيما في مصر، التي ألف بها كتابه “منيل المنح” والمرور في رحلاته الحجية ذهابا وإيابا بأهم الحواضر العلمية مثل: مكة والمدينة المنورة، والاسكندرية وفاس ومكناس والرباط، ومراكش وتارودانت، وتردد على المغرب عدة مرات متتالية حيث عاصر خمس ملوك مغاربة وهم: المولى عبد الرحمان ونجله محمد بن عبد الرحمان، والمولى الحسن الأول، ثم المولى عبد العزيز وأخوه المولى عبد الحفيظ”.
” وفي كل هذه الرحلات التي سافر فيها ماء العينين شمالا”، يورد حديدي “كان يحظى فيها بمكانة هامة عند السلاطين المغاربة، واحترمه علماء المغرب وقدروا منزلته، فتبادل مع علماء وأدباء الصويرة وفاس ومكناس ومراكش وتارودانت عدة رسائل، كما وطد علاقاته بعلماء سوس وضواحيها’.
وأشار إلى أن “زياراته المتكررة للمغرب، ترتب عنها أن تتلمذ على يديه عدد من الطلبة، الذين أجازهم في العلوم الشرعية وفي التصوف ومنهم نذكر على سبيل المثال لا الحصر العالم المغربي أحمد سكيرج، الذي أجازه الشيخ ماء العينين إجازة عامة بتاريخ 5 رجب عام 1324هـجرية، وأجاز محمد الصبيحي السلاوي في شهر جمادى الأولى عام 1324هـجرية، والعالم المغربي عبد الرحمان الوجدي مطلع القرن 20 (1901)”.
واشتهر الشيخ ماء العينين أيضا، يسترسل الباحث حديدي “بمكانته العلمية بالساقية الحمراء التي صاهر بعضا من قبائلها وأشاع العلم بينهم، بتأسيسه محضرته العلمية والتي ارتقت إلى مرتبة زاوية بحاضرة السمارة، حيث خرجت أجيالا من العلماء والمريدين من أنحاء الصحراء والمناطق المجاورة، سيرا على نهج علماء عصره ممن غرسوا نبتة العلم وساهموا في تحقيق الاستقرار والعمران البشري، حيث تميز بين معاصريه وتلامذته ومريديه بأخلاقه العالية ورؤيته الإصلاحية المتفردة، في إطار مشروع متكامل شمل عدة مناحي فكرية وتربوية وسياسية وروحية شهد به القاصي قبل الداني”.
مظاهر الإصلاح العلمي والتربوي عند الشيخ ماء العينين
ونبه حديد إلى أن “الشيخ ماء العينين ما إن حصل على زاد من العلم في محضرة والده الذي لا زمه ردحا من الزمن ملازمة الظل لصاحبه، حتى بادر إلى الانفتاح على مراكز العلم بالحواضر المغربية شمالا مثل: فاس ومكناس ومراكش، وغيرها من مراكز العلم بالعالم الإسلامي، بالاسكندرية والمدينة المنورة ومكة المكرمة بالحجاز”.
وشدد على أن “رحلاته العلمية مكنته من التعرف على أحوال العالم الإسلامي ومراكزه العلمية ومستوياتها الثقافية، فاهتم بتأسيس محضرة علمية رائدة بالساقية الحمراء عام 1864 ميلادية بالقرب من ضريح الشيخ سيد أحمد العروسي”.
وشكلت هذه المحضرة، حسب حديدي “قبلة للعديد من المريدين والتلاميذ من جل أنحاء الصحراء، اهتم من خلالها الشيخ ماء العينين بأداء رسالة العلم النبيلة، حيث اشتهر الشيخ وفق هذه الرؤية الإصلاحية والمشروع التربوي المتميز بتدريسه للطلبة مختلف العلوم الشرعية العقلية والنقلية، كان يستعين على ذلك بطاقم تربوي يساعده مكون من أبنائه الذين أجازهم في العلم وبعض تلامذته”.
وأفاد حديد إلى أنه “نظرا للكم الغفير من الطلبة الذين تتلمذوا في مدرسته، وهو ما سجله أحمد بن الأمين الشنقيطي صاحب كتاب “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط”، إثر حديثه عن الجموع الكثيرة التي كانت ترد على الشيخ ماء العينين بقوله: “… ورأيت منه ما حيرني، لأني أقدر من معه في وادي السمار من الساقية الحمراء، بعشرة آلاف شخص، ما بين أرملة ومزمن، وصحيح البنية، وكل أصناف الناس، وكل هؤلاء في أرغد عيشة، كاسيا من ذلك الشيخ، ويزوج الشخص ويدفع المهر من عنده، ويجهز المرأة من عنده، مع حسن معاشرته لهم، لا فرق عنده بين ولده والمحسوب عليه”.
ويرى الباحث الحسين حديدي الذي يرافق جريدة “آشكاين” في هذه السلسلة أن “هذا اكسب الشيخ ماء العينين مكانة علمية متميزة، رفعت من شأنه ومكانته بالساقية الحمراء ومنطقة تيرس، حتى صار علما ومنارا يشار إليه بالبنان، ويفد إليه الناس من كل جهات مجال البيضان تيمنا وتبركا به”.
تحول المدرسة لزاوية
وشدد على أن “هذه المكانة جلعت مدرسة الشيخ ماء العينين ترتقي إلى مرتبة زاوية، استقبل فيها ماء العينين الطلبة الوافدين في مجال شاسع من الحوض الموريتاني جنوبا إلى واد نون وسوس شمالا”.
ونوه الباحث بـ”عنايته الشيخ ماء العينين بالتأليف من خلال ما خلفه من آثار علمية متنوعة، بلغت حوالي 450 كتابا في جل العلوم الشرعية وباقي العلوم الأخرى نظما ونثرا، ناهيك عن المؤلفات الكثيرة التي جلبها معه إبان رحلاته العلمية إلى الحجاز ومصر وشمال المغرب الأقصى، وقد مدحه محمد المختار السوسي في كتابه ” المعسول” بقوله: ” أمضى رضي الله عنه حياته كلها في العلم وفي تدريسه والتأليف في عالم الفنون… فانتشرت به علوم جمة وتخرج به فطاحل عظام من الصحراويين وتجمعت له أعظم خزانة صحراوية””.
رؤية إصلاحية دينية تصوفية
“بجانب الإصلاح العلمي والتربوي الذي تميز به الشيخ ماء العينين”، يستطرد حديد شارحا “فقد اشتهر في الصحراء برؤية إصلاحية دينية وصوفية تروم منهج الوسطية والاعتدال، وتقوم على مبدأ الإيخاء الصوفي والتسامح الديني، بالحفاظ على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، والرقي بمظاهر الوحدة الدينية”.
وأكد أن “رحلاته العلمية والحجية في أقطار العالم الإسلامي، مكنته من التعرف عن كثب على أحوال المسلمين، ومعرفة طرائقهم الصوفية، فأدرك أسباب التناحر والخلاف المذهبي والصوفي بين أرباب التصوف ومشائخه ومريديه، واطلع عن كثب على مضامين هذه الطرق الصوفية وأورادها، فأهتدى الشيخ ماء العينين انطلاقا من الكتاب والسنة إلى منهج سليم يوحد هذه التصورات كلها وينأى بها عن الخلاف والتعصب، ما دامت كل هذه الأوراد تدعوا في جوهرها لعبادة الخالق وحده واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم”.
وتجلت خلاصة هذه الرية حسب حديدي في مؤلف للشيخ ماء العينين في شأن المؤاخاة بين الطرق الصوفية بعنوان: ” مفيد الراوي على أني مخاوي”، أكد من خلاله على أهمية توحيد هذه الطرق وطرح كل أسباب الخلاف جانبا، بقوله:
إني مخاو لـــجميع الطرق * أخوة الإيمان عند المتقي
ولا أفــــرق لــــلأوليـــاء * كـمن يفــــــــــرق لـلأنبياء
قال تعالى المومنون إخوة * وعدم التفريق فيه أسوة ”
واعتبر الباحث ذاته أن “التجربة الإصلاحية للشيخ ماء العينين قد أسهمت بشكل إيجابي في مجال التصوف، ذلك أن طريقته الصوفية عرفت إشعاعا باهرا، تمثل في انتشار وردها بين القبائل والمدن والقرى وواحات الصحراء، فصارت زاويته قبلة لطلاب العلم والمريدين من مختلف مناطق سوس ومراكش وفاس وغيرها من المناطق الشمالية، بل تم بناء فروع للزاوية في وجدة والناظور وفاس وسلا ومكناس ومراكش وتيزنيت، وغيرها من مناطق المغرب”.
اهتمامه بالعمران والفلاحة
واشتهر الشيخ ماء العينين، يقول حديدي “في المجال العمراني بما اختطه من عمران بمنطقة الساقية الحمراء من خلال بناء الزاوية والقصبة، وما رافقهما من غرس الأشجار وتوفير ظروف الاستقرار، ابتداء من سنة 1898 ميلادية، وحفر الآبار، حوالي 50 بئرا بوادي سلوان، والاهتمام بالفلاحة وغرس الأشجار التي جلبت من واحات الجنوب الشرقي ومن واحات أدرار بالقطر الشنقيطي.
مجاهد ضد المستمر الأوروبي
“وبجانب العمران”، يضيف الحسين حديدي “اهتم الشيخ ماء العينين برفع راية الجهاد ضد الاستعمار الأوربي، فعين نائبا عن السلاطين المغاربة في هذه الربوع، ومدافعا عن أرضها من تربص الأوربيين أواخر القرن 19 ميلادية، إثر المحاولات التي قام بها بعض المغامرين الإنجليز مثل دونالد ماكنزي”.
خليفة السلطان الحسن الأولي على الجنوب المغربي
وأوضح أن “السلطان المولى الحسن الأول قد بعث للشيخ ماء العينين بظهير يُعَيِّنُه من خلاله خليفة له على الجنوب المغربي، كما واجه الشيخ ماء العينين بمعية مريديه وقبائل المنطقة الاحتلال الإسباني لشبه جزيرة الداخلة عام 1885 ميلادية، وواجه القوى الاستعمارية الفرنسية مطلع القرن 20 ميلادية، في عمق الأراضي الموريتانية”.
التنسيق بين المخزن والقبائل الصحراوية ضد المستعمر
ويواصل حديدي حديثه عن الشيخ بكون “الزاوية المعينية بالسمارة احتضنت اجتماع الشيخ ماء العينين مع كافة القبائل الصحراوية عام 1905 ميلادية، بحضور وفد رسمي ممثلا عن السلطان المولى عبد العزيز يرأسه عم السلطان المولى إدريس بن عبد الرحمان، بهدف التنسيق المشترك بين المخزن المغربي والقبائل الصحراوية للتصدي للإستعمار الأوربي”..
قائد التعاون السياسي بين القبائل الصحراوية والمخزن
وذكر الباحث ذاته أن ما وصفه بـ”التعاون السياسي بين المقاومة الصحراوية بقيادة الشيخ ماء العينين، والمخزن المغربي، قد أسفر عن ازدياد مخاوف الفرنسيين على مصالحهم بموريتانيا، لاسيما بعد هجوم الشيخ ماء العينين وأتباعه على الحامية الفرنسية بكجوجت وقتل أبرز قادتها عام 1908 ميلادية، فأدركت خطورة المقاومة التي يقودها هذا المصلح والمجاهد الوطني، فقامت هذه القوات الاستعمارية بتكثيف جهودها العسكرية نحو شمال الصحراء في حرب غير متكافئة القوى، قادها الحاكم العام الفرنسي بالسينغال الكولونيل كورو، كان من نتائجها احتلال تكانت وأدرار وواحات أطار وشنقيط، مما عجل بنزوح الشيخ ماء العينين شمالا نحو مدينة تيزنيت”.
وفاته
وخلص إلى أنه “بوفاته سنة 1910 بتيزنيت، واصل أبناؤه أحمد الهيبة ومربيه ربه المقاومة في الشمال ضد الاستعمار الفرنسي، كما واصل أبناؤه وأحفاده فيما بعد نشر العلم وتأسيس الزوايا والجلوس للتدريس والاهتمام بالفتوى والقضاء والتأليف يشهد على ذلك التراث العلمي والمكتبي الذي تركوه في عدة خزانات محلية وجهوية ووطنية”.
الحلقات السابقة
–عائلات من الصحراء: أهل الشيخ بيروك.. عائلة بسطت نفوذها التجاري من وادنون إلى السودان
–عائلات من الصحراء: أهل العرابي..شبكة وكلاء تجاريين مسلمين ويهود بين الصويرة وتمبكتو
–عائلات من الصحراء: أهل بوكَرين.. محافظ صاغ “عقد الخاوة” وأنقذ مدونة زاوية آسا من الضياع
–عائلات من الصحراء: أهل لعريبي.. “خرقت” قاعدة انتماء وامتلكت منازل للكراء بتمبكتو